بين فترة وأخرى نقرأ ونشاهد ونسمع عن حالات تحرش، مما يدفعنا للتساؤل: ما هي الأسباب؟ وما الذي يجعل فئة من الشباب يمارسون التحرش، لفظياً وجسدياً، وأمام وعلى مرأى ومسمع من جميع أفراد المجتمع، دون خجل ولا خوف. شاهدنا في المقطع الأخير، الذي يصور حالة تحرش في أحد المجمعات التجارية في المنطقة الشرقية، منظراً مقززاً وشاذاً من بعض هؤلاء الشباب، الذين تمادوا في إطلاق ألفاظ بذيئة وسيئة، بل مع الملامسة، مع ترديد عبارات وقحة. لم تكن هذه الواقعة هي الأولى، بل تكرر المشهد على فترات متقطعة، ولكن: لماذا وصل حال بعض شباب إلى الحضيض في المستوى الأخلاقي والفكري؟، فما عاد يميز بين الخطأ والصواب، بين الفضول وقلة الأدب والوقاحة علناً أمام الناس. هذا الأمر يحضني على طرح أسئلة أخرى: ما هي عقلية أبنائنا؟ ما الذي يحملونه من أفكار ومعتقدات ومفاهيم ومن ثقافة ومن وعي؟ هل هي عقول واعية نيِّرة، أم تأثرت بتربية خاطئة ونظرة قاصرة للمرأة؟ ألا يرونها كائناً حياً له ما لهم من حقوق واحترام؟ هل هم نتاج تربية تحتقر فيها الأنثى؟. عندما نتعمق أكثر في بعض الأسر نجد أن نظامها سلبي في التربية، فهي تعزز السلوك الفوقي والهمجي عبر إعطاء الذكر الحق في كل شيء، ويكون تعاملها مع الذكور مختلفاً تماماً عنه مع الإناث، الذكر له الحق في الخروج وله مساحة من الحرية والتعبير، يأمر وينهى أخواته، وإن كُنَّ أكبر سناً منه، وهذا شيء مسموح به وعادي في تلك الأسر. وفي المقابل لا يُسمح للأنثى بالخروج، مشكوك في أمرها سواء أخطأت أم لم تخطئ، لم تعتد حتى التعبير عن رأيها، وإن حاولت قُمِعت. جراء كل ذلك، تنتج ازدواجية في التربية، خلل في التفكير لدى بعض الشباب الذي اعتاد النظر للمرأة بصورة قاصرة ناقصة. مازال هناك نظرة قاصرة ومحتقرة للمرأة، وإن غُلِّفت بصور متعددة تشير إلى عكس ذلك، والدليل على ذلك ما نشاهده في مواقع التواصل الاجتماعي من احتجاجات على خروج المرأة إلى الأماكن العامة، أو التنزه، أو ممارسة حياتها الطبيعية في ذهابها إلى الأسواق للحاجة، ما زالت هذه النظرة متخلفة وناقصة ومجحفة، فنرى تغريدات أو عبارات مليئة بروح الاحتقار، أو التلفظ بسوء على المرأة، أو تُظهِر تبنِّي صاحبها أفكاراً هدامة تقول إن سبب التحرشات هي المرأة نفسها، بل إن بعضهم يجيز التعدي عليها وتجريمها، وقذفها. لنعترف أن هناك من يحرض ضد المرأة، ويحمِّلها مسؤولية التحرش لأنها خرجت من منزلها، وهذا التحريض جعل بعض الشباب يتمادى في التعدي عليها، وكأنه عقاب على خروجها من المنزل، وفي الوقت نفسه يتم التجاهل والتغاضي والتغافل عن سلوكيات الشباب السلبية، مما يزيدهم تمرداً وغلظة. إن تحميل المرأة مسؤولية التحرش، بخروجها من المنزل، حيلة العاجز، الذي لا يمكنه تعزيز وجهة نظره إلا باختلاق قصص وروايات، لإثبات عمق وصحة فكرته. هل يعقل أن لدى أولئك الشباب اختلالاً نفسياً يدفعهم إلى التحرش؟، ربما، وقد يكون هذا التصرف طبيعياً، أو ناتجاً عن ردة فعل غاضبة انفعالية بسبب تصدي المرأة لهم، فلم يتقبلوه واعتبروه إهانة، لذا كانت ردة فعلهم عنيفة، بعد أن رأوا أن هذا الكائن «المرأة» يرد عليهم ويدافع عن نفسه. أستغرب حال بعض الشباب في الخارج، تجدهم يحترمون المرأة ويقدرونها، فهل هذا الأمر يعود إلى ثقافة البلد وقوانينه؟، أم هي مسألة نفسية تلقائية تتولد عندما يوجد مجتمع متكامل العناصر، يتصرفون ويتعاملون بإنسانية مع الجميع، لا يفرقون بين امرأة ورجل في الحقوق والمعطيات والحوافز والتعامل، مجتمع يجبر الجميع على اتباع هذا النظام بعفوية، وإن حدث مخالفات تم تطبيق القانون على الجميع. مع الأسف، الانعزال الفكري، والخوف من تصرفات الآخر، وسوء الظن في النيات، وهضم الحقوق، والقناعات والمفاهيم الخاطئة، ساعدت كثيراً في وجود هذه الفجوة بين أفراد المجتمع بشكل عام، وبين المرأة والرجل بشكل خاص. وما شاهدناه في مقطع التحرش من شباب تتراوح أعمارهم بين 20 و25 عاماً يدفع أفراد المجتمع لإطلاق مثل هذه التحليلات والتساؤلات عن هذه التصرفات وأسبابها. والأمر المقلق فعلاً في هذا المقطع، وهو أن المتجمهرين حول الشباب والفتيات، لم يحركوا ساكناً، بل انشغلوا بتصوير المشهد، وكأنه فيلم استعراضي، وليس واقعاً إنسانياً مخجلاً يحدث أمام أعينهم، فأين ذهبت الشهامة والنخوة و«الفزعة»؟ من سحب تلك القيم والمشاعر الإنسانية وتقديم المساعدة للآخرين؟ هل أصابهم ما أصاب غيرهم من النظرة القاصرة للمرأة «لماذا خرجت للتسوق؟». لابد من وضع برنامج توعوي إرشادي تثقيفي موجه لكافة أفراد المجتمع، يعرِّف بماهية قيمة الإنسان واحترامه واحترام خصوصيته، وكيفية التعامل مع الآخر بشكل إنساني، منذ الطفولة حتى سن النضج، وأن يتم من خلال هذا البرنامج توعية الأفراد والأسر بكيفية التربية الصحيحة البعيدة عن احتقار الآخر، وهضم حقوقه، وكيفية تحقيق المساواة بين أفراد الأسرة الواحدة، وبين أفراد المجتمع. ما حدث لهؤلاء الفتيات يعتبر إيذاءً وعنفاً معنوياً ولفظياً وجسدياً من الدرجة الأولى، بدليل وبرهان، وهنا يأتي دور النظام، نظام الحماية ضد الإيذاء والعنف، فتطبيقه بدقة وموضوعية سيوفر الحماية لكل أفراد المجتمع، وهذا لن يأتي إلا بوضع قانون واضح وصريح في عقوبة التحرش.