قال عضو مجلس الشورى السابق الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، إن الأغنية السعوديَّة الحديثة شهدت تطوّراً ملحوظاً خلال منتصف القرن الماضي بواسطة ثلاثة مجدّدين، هم ابن الطائف طارق عبدالحكيم، وابن مكةالمكرمة إبراهيم خفاجي، وابن عنيزة محمد الفهد العيسى، مضيفا أنها انتقلت معهم من الموروث الشعبي الجماعي بأدوات الطرب التقليدية إلى الأداء الفردي بالآلات والمعازف الحديثة والنوتة الموسيقية. وبين الشبيلي، في محاضرة قدمها في سبتية حمد الجاسر الثقافية صباح أمس، بعنوان «محمد الفهد العيسى: مجموعة إنسان» أدارها الدكتور عبدالله الحيدري، أن الشاعر الراحل العيسى كان ذا حضور بارز في الوسط الثقافي وأذهان محبيه، إضافة إلى المجتمعات الستة التي عمل فيها سفيراً، وكان مجلسه مفتوحاً على الدوام منذ أن بزغ نجمه قبيل الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي، وكانت مشاركاته الثقافية لوحة أدبية لا تغيب، وإبداعاته الشعرية غيث لا ينقطع، يتجلّى حضوره في كلّ منعطف يمرَّ بالوطن، وفي كل مناسبة أسرية أو عاطفية. وأشار إلى أن الشاعر عُرف في المجتمع الثقافي بأسماء مستعارة مثل «الفهد التائه» و«بدوي الدهناء» و«الحطيئة» و«سليم ناجي»، كما سجّله عبدالله بن إدريس في كتابه (شعراء نجد المعاصرون) ضمن ثمانية من شعراء عنيزة، وحاولت هذه المشاركة التي قُدّمت بمناسبة تكريم المهرجان له في مسقط رأسه، التجوَّل بانورامياً في تحوّلات حياته لتتوقّف عند ثلاث محطات مؤثِّرة شكّلت نفسيّته وتركت بصماتِها وآثارها الواضحة في تكوينه؛ أولاها تلك الحقبة المبكّرة من شبابه التي قضاها متنقلاً بين مدن الحجاز، وأودعت ثقافته المعرفيّة كثيراً من المؤثِّرات، أما المؤثِّر العميق الثاني، الذي استمرّ أبو عبدالوهاب مصدوماً بانعكاساته النفسية عليه بقية حياته وتسبّب في إيقاف صعوده الوظيفي، فكان هجمةً شرسة تعرّض لها في منتصف شبابه من أحد المشايخ المتشدّدين (محمد أحمد باشميل) في أعقاب صدور بعض قصائده الجريئة مطبوعةً في لبنان؛ إِذْ بقي في إثرها حبيس إقامة اختيارية فرضتها عليه ظروفُ تلك الزوبعة، بسبب ما تضمنته القصائد حقيقةً أو مُنتحلاً بعضُها من جرأة نواسيّة وربما عقديّة غير مقبولة، خاصةً أنه كان حينها يشغل وظيفة قياديّة في وزارة العمل والشؤون الاجتماعيَّة، وبقيت تلك القضيّة التي سبّبتها قصيدة «ليديا» وبعض قصائد ديوانه على مشارف الطريق (دار العلم للملايين بيروت 1383 ه – 1363 م)، والمؤثِّر الثالث الذي فاق غيره من المؤثِّرات، فإنَّ هذا الإنسان الذي لا تكاد الابتسامة والدعابة تفارقانه، مرَّت به وبأسرته مصائب بالغة الأسى، كان من بينها فقدُ الابن الأكبر عبدالوهاب والبنت الكبرى فوزية، ثمَّ الابن الأوسط نزار وحفيدته سارة (بنت عبدالوهاب) رحلوا جميعًا في (عز) الشباب في سنوات متقاربة، وفارق أبو عبدالوهاب الدنيا في آخر شهر رمضان المبارك دون أن يعرف بوفاة الحفيدة التي سبقته إلى الدار الآخرة بفترة وجيزة، وقد نظم في بعض تلك الرزايا قصائد من جميل شعره وأكثره حزنًا وشفافية، واحتسب وحرمه وأولادهما د. إيمان وعدنان وعبدالعزيز وغادة في مصابهم وجه الله أبلغ احتساب. وفي ختام المحاضرة سرد بعض آراء المفكرين والأدباء فيه؛ فقد قال د. غازي القصيبي (1419ه) «لو تجسَّد الشعر رجلاً لكان رجلاً يشبه العيسى، يشبهه في أناقته، يشبهه في كرمه، يشبهه في طيبته، يشبهه في وداعته، يشبهه في دواوين شعره، إنّه يتنفس شعرًا، ويعيش شعرًا، ويأتيه الشعر من بين يديه ومن خلفه ولا يذهب إليه، مخلص للشعر، لا فجوة بين شخصيته الاجتماعيَّة وحياته الشعرية، فرومانسيته الشعرية تنبع من حياته وليس من خياله، ورقّة شعره وهدوء معجمه تنبع من رقّة مشاعره، إنّه يكتب شعره دون تكلّف أو تصنّع، فالعيسى – في نظر د. غازي كما نقلته صحيفة الرياض – مخلوق شعري وديع أنيق، خفيف الوزن حسّيًا وشعرّيًا». كما قال عنه د. إبراهيم التركي عند رثائه: «حظّنا أنّه من هنا، وسوء حظّه أنّه لم يكن من هناك، وإلا لأصبح رقمًا إبداعيًا معادلاً لقيم شعرية لديهم تبوّأت القمم، تواصل الشاعر العيسى ليرسم لوحات العشق للأرض والأنثى غير آبهٍ بالأصوات المعترضة، وأعطاه اغترابه عن الوطن سفيرًا دفقًا عاطفيًا جميلاً لا تثنيه الرقابة أو القيود، ولم يكن غيابه سوى حضورٍ هادئ أبعده عن ذاكرة الإعلام ليبقى في طليعة الأعلام، وجد العيسى سلواه في البحر والنهر والسهل والصخر والطفل والمرأة، ووجدنا عزاءنا في صورة شاعر أحب للحب وأضاء الدرب، وظلَّ شاعر الخصب في زمن الجدب». محمد الفهد العيسى