تناقلت وسائل الإعلام على مدى الأيام الماضية تفاصيل تسريب المعلومات الاستخباراتية على يد المتعاقد التقني مع وكالة الأمن القومي الأمريكية السيد إدوارد سنودن، حيث قام بنشر معلومات سرية لصحفية «واشنطن بوست» و»الجاردين»، ومن المعلومات المهمة التي سربها برنامج «بريسم» (PRISM) التجسسي الذي طورته الوكالة وقدرته الفائقة في جمع بيانات الاتصالات، ثم تلا ذلك نشر عمليات التجسس التي طالت المستشارة الألمانية ميركل، وكذلك الشعب الفرنسي وبعض الشخصيات السياسية البارزة في فرنسا، مما أدى إلى إرباك العلاقات السياسية بين أمريكا وأوروبا، ويبدو أن تلك التسريبات منذرة بتدهور العلاقات بين الولاياتالمتحدة وعديد من الدول وخاصة في أمريكا الجنوبية مثل البرازيل والمكسيك. أما مبدأ التجسس بشقه الاجتماعي فهو من خصائص النفس البشرية حيث تميل إلى التجسس والمراقبة، ابتداءً من الصيد والبحث عن الماء والكلأ قديماً، وانتهاء بالحكم والنفوذ السياسي والاقتصادي حديثاً، ومع التطور السياسي والاقتصادي، شهد التجسس تنوعاً ملحوظاً في الأساليب والأدوات، فبدلاً من الاعتماد على الطرق التقليدية من التمثيل والتزوير وضرورة السفر والترحال، استخدمت وسائل التقنية الحديثة من الكمبيوتر والإنترنت، بل أصبح الهاتف النقال شريحة يمكن من خلاله تحديد موقعك والوصول إليك. ومع وصول أحدث أجهرة الاتصالات وانتشار الإنترنت لأبعد مكان في العالم، بدأت الحكومات بالسعي في إمضاء العقود والاتفاقيات مع إمبراطوريات التقنية حول العالم، والولاياتالمتحدةالأمريكية أخذت نصيب الأسد بحكم نفوذها الاقتصادي والاستعماري ونهضتها العلمية، وبذلك استحوذت على هذه الشركات وسخرتها في خدمتها. إن العالم اليوم يعيش تحت وطأة التقنية التي أضحت ملازمة له في كل مكان وزمان، فلم تعد هناك معلومات خاصة أو شخصية، وأضحت نار الحروب تذكيها التقنية بقدرتها على تحديد الأماكن المهمة بتفاصيلها الدقيقة عند الدول العدو، مما يسهل عملية اختراقها والقضاء عليها بسرعة ودقة عاليتين. حالياً، تشهد الساحة التقنية تناقس العملاقين «جوجل» و»آبل» على الخروج بأحدث الخرائط التي تتميز بالدقة العالية في أبعاد الصور ووضوحها، من خلال الاستعانة بطائرات تجسس عسكرية قادرة على التقاط المجسمات التي تصل إلى مقاس أربعة بوصات مربعة، بل إن شركة آبل استعانت بطائرات تجسس تستطيع أن تلتقط كل ما يتوارى خلف النوافذ، وهذه الأخيرة مشابهة لتلك التي استخدمت في الحرب على أفغانستان، وعلى سبيل المثال، استطاعت المخابرات الأمريكية في شهر شباط/فبراير الماضي مراقبة إحدى تجارب كوريا الشمالية في اختبار نووي على أراضيها بواسطة خرائط جوجل، وفي ذات السياق قامت قوقل برصد معلومات دقيقة وأخذ مجموعة من الصور لأول حاملة طائرات صينية في الميناء العسكري الصيني، كان ذلك في الثالث عشر من حزيران/يونيو من هذا العام. وقد شهدت هذه المهنة تطورات ملحوظة بالتزامن مع ازدهار المعرفة والعلوم فأصبحت تعلّم وتدرس وتدفع عليها الحكومات أموالاً طائلة، ويعد التجسس مهنة من العيار الثقيل الذي تتفاخر به بعض الثقافات والدول، في حين يوجد من يمقته ويعده اختراقاً صريحاً للخصوصية وحقوق الإنسان، ويوجد كذلك من الشعوب من يبني حوله هالة من الإعجاب والقصص الأسطورية كما هو الحال مع الننيجا في اليابان. وبالرغم من التطورات المتسارعة والأساليب المتقدمة، إلا أن العالم يعيش اليوم بين شد وجذب في مدى مشروعية التجسس، وحقوق الأفراد الشخصية، وحقوق الدول، والأثر السلبي لاستخدامها فيما لو استطاع بعض المجرمين اختراقها، وهي بلا شك انتهاك لحقوق الأبرياء وانتهاك لخصوصيات أفراد وشعوب ودول، ينبغي الوقوف في وجهها وكشف حقائقها للآخرين، حتى تتخذ الإجراءات اللازمة في تجنبها أو لنقل التقليل من أضرارها.