تقدم المعارضة مبررين على الأقل للمطالبة باستقالة الحكومة، أولهما القول بأن حكومة العريض قد فشلت في كل شيء، مركزة بالخصوص على الحالة الاقتصادية والاجتماعية. وثانيا اتهام الترويكا، وبالأخص حركة النهضة، بكونها تتحمل مسؤولية في عملية اغتيال البراهمي. وبناء عليه، تقوم باستحضار المعطيات والأرقام لإثبات ذلك، مستغلة حالة الارتباك العام، وعدم إحساس المواطنين بوجود تقدم ملموس في حياتهم الخاصة والعامة. فالشعور بعدم الأمان والاطمئنان يصبان في صالح الدعوة إلى سحب الثقة من الحكومة، لكن ذلك لا يكفي وحده لاتهام الحكومة بكونها لم تفعل شيئا منذ توليها المسؤولية، وإن كان صحيحاً أنها لم تنجز معجزات، ولم تفلح في طمأنة المواطنين وكسب ثقتهم، وهو ما يفسر عدم تحمسهم للخروج إلى الشوارع دفاعا عن الحكومة. أما فيما يتعلق باغتيال الحاج البراهمي، لا تكفي المعطيات المتوفرة إلى حد الآن لاتهام الحكومة بتورطها المباشر في هذه الجريمة البشعة، لكن من المؤكد أنها -إلى جانب وزارة الداخلية- مسؤولة عن الفشل في حمايته، خاصة بعد الكشف عن وثيقة الإشعار الأمريكية بكونه مستهدفا، وذلك قبل أحد عشر يوما من قتله. وبقطع النظر عن الجدل الدائر حول أداء الحكومة، فالمؤكد أن استبدالها بأخرى قد أصبح محل توافق بعد أن أقرت حركة النهضة باستعدادها للإقدام على هذه الخطوة التي ترى فيها تنازلا عن حقها في الاستمرار، أي أنها قبلت بعرض أكثر كلفة من ذلك الذي سبق وأن قدمه لها أمينها العام حمادي الجبالي عندما كان ينوي تشكيل حكومة كفاءات يتولى هو قيادتها. إذا أين تكمن المشكلة؟ كانت العقبة في البداية أن المعارضة رفعت سقف مطالبها عالياً عندما طالبت بإلغاء المسار الانتقالي برمته، أي حل المجلس التأسيسي وكل الهيئات التي انبثقت عنه. إنه مطلب يتجاوز إمكاناتها الذاتية، ويفقدها التأييد الشعبي الضروري لتحقيقه. لهذا لم يتحمس قطاع واسع من السياسيين والفاعلين المدنيين والرأي العام لذلك، وهو ما جعل السقف يتراجع عند حدود الاكتفاء بحل الحكومة. هذا التراجع غير المعلن من المعارضة تحول عند حركة النهضة إلى «مكسب سياسي» حاولت أن تبني عليه تكتيكها، وذلك بتغليف مسألة الحكومة بعدد من المطالب التي تعتقد بوجوب أن تعطى لها الأولوية. لكن قبل ذلك، تمسكت المعارضة بطلب شكل طيلة المرحلة الماضية عقدة العقد، وهي الدعوة إلى حل الحكومة قبل انطلاق الحوار، وهو أمر لم يكن بوسع النهضة القبول به مهما كانت الكلفة السياسية. وقد أدركت المنظمات الراعية للحوار صعوبة فرض ذلك على الترويكا، كما احتاج الأمر أيضا إلى تعديل بعض مكونات جبهة الإنقاذ لموقفها، وخاصة الجمهوري ونداء تونس، مما أدى إلى التخلي عن هذا الشرط قبل الحوار، مع التمسك بطرحه بعد انطلاق الحوار مباشرة. كانت هذه الخطوة الثانية التي أقدمت عليها المعارضة كفيلة بإخراج المبادرة الرباعية من حلقة البيضة والدجاجة، لكن جاء بيان النهضة الصادر عشية يوم الجمعة الماضي، ليعيد الكرة إلى المربع الأول. إذ بقطع النظر عن الخلفيات والمناورات، لم يكن النص واضحاً بالقدر المطلوب، حيث فتحت الصيغة التي كتب بها البيان المجال لتأويلات سلبية دفعت الرباعي إلى إطلاق النار على حركة النهضة، واتهامها بإفشال التوصل إلى الحوار الوطني المنشود. لقد وجدت حركة النهضة نفسها مضطرة للتأكيد على بعض الجوانب التي لم تكن واضحة في ردها السابق، خاصة فيما يتعلق بمصير الحكومة، وذلك حين أكدت على أنها «إلى جانب تشكيل حكومة جديدة مستقلة لا يترشح أعضاؤها للانتخابات القادمة ويتم الاتفاق عليها عبر الحوار والمصادقة عليها من المجلس التأسيسي». المؤكد أن «النهضة» تجنبت أن تلعب أوراقها بشكل واضح، فهي تعلم بأنها مضطرة للتنازل عن الحكومة، ولكنها تريد في الآن نفسه أن تحافظ على ماء وجهها من جهة من خلال تتويج كتابة الدستور وتحديد موعد قريب للانتخابات، كما تعمل على الاحتفاظ بثقة قواعدها فيها من جهة ثانية، وأن تسيج خطواتها ببعض الضمانات التي لا تفتح عليها أبواب جهنم من جهة ثالثة، وأخيرا أن تحاول الإبقاء على الحد الأدنى من الثقة لدى من تبقى من الجمهور الذي صوت لها سابقاً، الذي يعيش حالة من الإحباط والحيرة الشديدة بعد سنتين من ممارستها للحكم. ماذا نستخلص مما سبق؟ أولاً: التحلي بالشجاعة السياسية وهو الأمر المطلوب في هذه المرحلة الدقيقة، لأن الرهان على ربح الوقت لن يفيد صاحبه كثيراً، وقد ينعكس سلباً عليه لأنه يزيد من تعقيد الحالة، ويهز من صورته لدى الرأي العام، ويعطي الفرصة لخصومه لتغيير المعادلة لصالحهم. ثانياً: على أطراف المعارضة مراعاة الحالة التنظيمية والسياسية التي تمر بها حركة النهضة، وذلك بالمساعدة على تمكينها من الخروج من الحكومة بأقل كلفة، لأنك كلما حاولت التنكيل بخصمك، فإنك ستزيد من نسبة الشراسة في سلوكه وردود أفعاله. ثالثاً: عدم لجوء الطرفين إلى التصعيد الميداني، خاصة في هذا الظرف الصعب الذي تمر به البلاد، نظراً لانعكاسه المباشر على الحالتين الاقتصادية والأمنية. المطلوب هو التوجه مباشرة لإدارة الحوار حول المسائل المعلقة حتى يتمكن التونسيون من استرجاع أنفاسهم، وهم الخائفون حاليا على أبنائهم الذين عادوا إلى الدراسة، الذين يخشى أن يتم جرهم إلى ساحة الصراع السياسي. رابعاً: على المنظمات الراعية للحوار ضبط النفس، وتشجيع الطرفين على الدخول في حوار قريب، وأن تشجع أي توجه من شأنه أن يساعد على تحقيق ذلك. صحيح، صبرت هذه المنظمات كثيراً، ولكنها مطالبة بتحقيق نتيجة إيجابية تنقذ بها البلاد من صدام آخر ستكون نتائجه كارثية على أكثر من صعيد. خامساً وأخيراً: لن تحل المشكلة بالبحث عن رابح وخاسر في هذه الأزمة. يجب أن يشعر الجميع بأنهم رابحون، وأن مصلحة البلاد تبقى فوق كل التكتيكات الظرفية، والحسابات الحزبية. تونس أمانة في رقبتكم جميعاً.. ولن يتحقق ذلك إلا بتوفير الحد الأدنى من الثقة لدى جميع الأطراف، بما في ذلك حركة النهضة.