فرش حصيره وفرد عليه ما يحمله من حزم أعواد السواك.. اتخذ وضع القرفصاء على طرف الحصير، و مدّ يده التي كستها التجاعيد يحاول أن يرتب الحزم بشكل أفضل… كانت عينه معلقة بباب الجامع الذي بدأ المصلون الخروج منه.. أخذ يدعو الله في سره أن يرزقه من حيث لا يحتسب.. راقب الجموع وهي تغادر الجامع ولم يلتفت له أحد.. جمع حزمه و أحزانه و قام ليغادر المكان.. همًّ بطي الحصير فإذا بصوت طفولي يقول: يا عم .. التفت إلى مصدر الصوت فإذا به أمام طفلة صغيرة تمدّ يدها بخمسة ريالات .. سألها وهو لا يكاد يُبين: هلا يا بنتي، لماذا تنادين؟! أجابته: أريد خمسة مساويك يا عم.. و ابتسمت..رأى في محياها صورة حفيدته رغد.. كانت في مثل عمر هذه الصغيرة.. أخذته الذكرى إلى بعيد.. إلى رغد الطفلة الحنون.. تلك الصغيرة التي تنثر الجمال حولها كفراشة الحقول.. كانت ترافقه حتى باب المنزل ثم تطبع على خده قُبلة صغيرة وتودّعه.. وعند ما ينزوي النهار ويترك مكانه للظلمة و ليل الوحشة كانت تنتظره قُرب الباب فما أن تسمع صوت المفتاح يدخل في الباب حتى تصرخ بحبور: جدي ..جدي.. و ما إن يدخل حتى تتعلق برقبته وتظل تُقبل جبينه.. كانت تتلقف منه كيس المساويك وتنثر الحزم وتعدها، ثم تقول: ماذا أحضرت لي يا جدي؟! كان يضحك جذلاً و يمازحها: ماذا تريدين يا شقية؟ كل ما ترغبين موجود لديك!! كانت تضحك وتقول: ومتى تحضر لي دمية مثل دمية ابنة جيراننا؟! لقد وعدتني يا جدي!! يقرص خدها ويبتسم قائلاً: لديكِ دمية أجمل من دمية ابنة الجيران!! ماذا تريدين بالضبط؟!! كانت تضحك و تقول: أريد أن أبيع معك يا جدي، أريد أن أجلس مكانك قُرب الجامع وأنادي: مساويك .. مساويك ..!! عم؟! يا عم؟! عاد من ذكرياته على صوت الطفلة أمامه، رأها تهز يدها بالريالات الخمس وتقول: يا عم، أريد خمسة مساويك.. قال لها وقد سقطت دمعة رغماً عنه: حاضر يا صغيرتي.. واتجه إلى الحزم وهو يحدثها: لم تخبريني، ما اسمكِ يا صغيرتي؟! أجابته: رغد، رفع رأسه نحوها وانهمرتْ دموعه وقال كأنه يهذي: نفس الاسم… أسأل الله أن يحفظك لأهلك.. وأعطاها المساويك فذهبت تركض متجهة إلى إحدى السيارات فركبتها وذهبت.. طوى الحصير وحمل كيس المساويك واتجه صوب منزله.. عند الباب تذكر رغد.. أدار المفتاح في الباب ودخل، كان المنزل صامتاً كالقبر، اتخذ مجلسه قرب الهاتف، ورفع السماعة، ضغط الأرقام التي صار يحفظها كاسمه، فأتاه صوت ابنه من الطرف الآخر وبعد السلام والتحية سأله بقلب منفطر: كيف حال رغد؟! أجابه ابنه: على حالها يا أبي، ما زالت في غيبوبة.. أسأل الله أن يلطف بها وبنا.. قال الجد بحسرة: لا أدري كيف عجز الطب عن حالتها؟! كيف؟! أتى صوت ابنه متحسراً باكياً: هذا قدر الله، والحمد لله على كل حال.. بكى الجد وقال: سامحني يا بُني ليس لديّ المال ولا «الواسطة» وإلا لكانت الآن في أحسن حال.. بكى الابن وقال: لا نقول إلا الحمد لله على كل حال… أغلق الجد السماعة وأخذ يجهش بالبكاء… تذكّر اليوم الذي أخذ حفيدته معه.. كانت سعيدة بهذا الحدث، كانت أمامه كوردة زاهية وهي تمسك بيده بأصابعها الصغيرة تارة و تارة تترك يده وتركض أمامه مبتعدة.. كان سعيداً بها ذاك اليوم ولم يعلم ما يُخبِّئ له القدر.. أمسك رأسه بكفيه وهو يستعيد ذكرى الفاجعة التي حلّت بهم.. بكى كثيراًً وهو يردد سامحيني يا رغد.. سامحيني يا حبيبتي… يتذكرها كانت تركض أمامه وانطلقت مبتعدة عنه وفي لمح البرق رآها مضرجة بدمائها أمامه في الشارع.. صرخ حينها وألقى بكيس المساويك وقطعة الحصير.. وهرع إليها .. لا يعرف من أين خرجت تلك السيارة ودعست حبيبته الصغيرة .. بكى وهو يتذكر حديث الأطباء (نزيف في المخ أدى إلى غيبوبة) كان مستعداً لأي شيء تطلبه منه حفيدته.. وها هو الآن يراها طريحة الفراش ولا يستطيع أن يقدّم لها أي شيء… بكى زهرة أيامها التي يراها تذوي أمامه.. بكى قِلة ذات اليد وضعف الحال.. بكى مأساة ابنه وحزنه على ابنته الوحيدة.. رنّ الهاتف بجانبه، رفع السماعة: سمع ابنه يصيح في الهاتف: رغد رحلت يا أبي.. رغد رحلتْ… أغلق السماعة، و وضع رأسه بين ركبتيه و أخذ يبكي بصمت..