تتوجه أنظار المراقبين إلى إيران التي تسلم رئاستها رجل الدين الدكتور حسن روحاني المحسوب على التيار المعتدل الذي أطلق منذ فوزه في يونيو الماضي كثيراً من التصريحات المثيرة للجدل داخلياً وخارجياً، توجت بخطابه المدروس بعناية شديدة الذي ألقاه في مبنى الأممالمتحدة قبل أيام، حيث وجه من خلاله رسائل كثيرة متعددة الاتجاهات إلى الداخل الإيراني وإلى الخارج الإقليمي والدولي. لم يتردد الرئيس الإيراني عن الحديث في القضية التي تشغل بلاده والعالم والمتعلقة بامتلاك بلاده أسلحة نووية، عندما أكد في نيويورك على أن «الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى لا مكان لها في عقيدة الدفاع الإيرانية وتتنافى مع قناعاتنا الدينية والأخلاقية الأساسية». وذهب بعيداً صوب الداخل الإيراني مع تعميمه حين قال «ندافع عن السلام المستند إلى الديمقراطية وبطاقة الاقتراع في كل أنحاء العالم (..) ليس هناك حلول عنيفة لأزمات العالم». هذا الإعلان الصريح لا يمكن له أن يتبوأ مكانة بارزة في الخطاب دون ضوء أخضر من المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي، الذي سبق له الإعلان عن ضرورة الولوج في علاقات دولية مقبولة لدى دول الجوار الخليجي والعواصم الكبرى، وأطلق عليها مصطلح «المرونة البطولية»، في حديث له أمام قادة الحرس الثوري منتصف شهر سبتمبر الجاري، حيث أكد خامنئي عليها: «إنني مؤيد لقضية وصفتها قبل أعوام طويلة بالمرونة البطولية ذلك لأن هذه الحركة تكون جيدة جداً وضرورية في بعض الأحيان». لا شك أن الرئيس روحاني كسب جولة في عملية التزاحم مع الحرس الثوري الذي يتبع مباشرة المرشد الذي وبخ الحرس بقوله «على الحرس أن يكون واعياً سياسياً لا أن يحمي السياسة»، ما يفهم أنه دعم لتوجهات الرئيس روحاني في سياسته الداخلية والخارجية، وهو ما أسس لخطابه الأخير أمام الأممالمتحدة. هذا الخطاب الذي أزعج الكيان الصهيوني وقاد رئيس وزرائه نتنياهو إلى التشكيك في مجمل الخطاب وتفاصيله ومصداقيته خصوصا عندما أقر روحاني بحقيقة وجود المحرقة النازية، خلافاً لسلفه محمود أحمدي نجاد الذي أنكرها. صحيح أن الملف الإيراني يحتاج إلى فترة من الزمن لكي تُجرى معالجته، وهو أمر تقره أيضا العواصم الكبرى، لكن الاستعداد الإيراني لإحداث اختراق فيه شجعها على كسر الجليد باجتماع الرئيس الفرنسي مع نظيره الإيراني لاكتشاف مواطن الاختراق الممكنة، حيث سبقها رفع الحظر عن شركات الملاحة البحرية الإيرانية ما أحدث ارتياحاً داخلياً أدى إلى وقف تراجع سعر صرف العملة الوطنية «الريال» وكسبه نقطتين أمام العملات الدولية، لتبدأ جرعة مضاعفة من التحرك الديبلوماسي لطاقم روحاني يحاول من خلالها محو التداعيات السلبية لسياسة سلفه نجاد في الداخل والخارج. نجاد متهم بعدم تقديم أرقام صحيحة عن واقع الاقتصاد الإيراني، لذلك لم يتردد روحاني ومنذ أن تم انتخابه من توجيه انتقادات لاذعة لسلفه، فأعلن أمام نواب البرلمان أن «إيران تواجه أعلى معدل تضخم في المنطقة وربما في العالم»، مشيراً إلى أن نسبة التضخم تصل إلى 42 %. ربما هذه النسبة ليست سوى قمة جبل الجليد الذي يتطلب التعاطي معها كشف مزيد من الحقائق ومعالجة الأمور ب«المرونة البطولية»، ومواجهة الأزمات بمصداقية أكبر. فإيران التي تعتبر ثاني أكبر مصدر في العالم للنفط، تواجه بطالة تصل إلى 14 %، تتضاعف في أوساط الشباب لتصل إلى 50 %، وتعاني من أزمات بسبب الحصار المفروض عليها وخصوصاً إزاء عدم قدرتها على تحصيل الأموال الناجمة من بيع النفط الذي تعتمد عليه بنسبة كبيرة، ما وضع الداخل الإيراني على مرجل يعمل بنار هادئة تفرض على الرئيس الإيراني الجديد، الذي وعد شعبه بكشف حقائق الوضع الاقتصادي بعد مائة يوم من تسلمه منصبه، أن يتعاطى بجدية أكبر إن أراد لفترته الرئاسية الأولى التأسيس لفترة ثانية. فالموضوع الاقتصادي والمالي يشكل قلقاً كبيراً لدى صناع القرار في إيران ولم يعد بالإمكان تجاهله بخطابات إنشائية غير قادرة على وقف التدهور، بل بفك العزلة التي بدأت تأخذ مفعولها مع رفع الحظر عن الشحن البحري كمقدمة إلى وقف مقاطعة المؤسسات المالية العالمية للبنك المركزي ليتمكن من تحصيل الديون التي بدأت تقترب من سقف المائة مليار دولار. تدهور الوضع الاقتصادي يرجعه روحاني إلى ضعف أداء الحكومة السابقة التي لم تسع بما يكفي للنهوض الاقتصادي، وإلى الحصار الدولي. ويبدو أن روحاني يوجه اتهامات مبطنة في أكثر من موقع وتصريح بأن سبب الحصار هو تخبط حكومة سلفه نجاد في إدارة الملفات الإقليمية والدولية. ولتحقيق الأهداف الداخلية، فإن إيران في حاجة إلى انفتاح خارجي قدمت له بخطاب روحاني في نيويورك، وهي أيضا في حاجة إلى وضع أسس جديدة للعلاقات الإقليمية المعقدة مع دول الجوار وفي الملف السوري. في الأخير طهران وجدت في المبادرة الروسية إزاء موضوع الأسلحة الكيميائية مخرجاً مهماً وحلحلة على طريق عقد مؤتمر جنيف2، لكنها تحسب على طريقتها الخاصة مسألة الأرباح والخسائر والثمن الذي يمكن لها أن تدفعه فوق أثمان الحصار الدولي. ومن حيث المبدأ هي مستعدة لدفع جزء من هذه الأثمان التي قد تكون على شكل تعهدات تم الإعلان عنها إزاء موضوع السلاح النووي، إضافة إلى توريط موسكو إلى واشنطن في قضية الكيميائي السوري. هل نقترب من مقاربة بين «المرونة البطولية» وبين قرار طهران وقف الحرب مع العراق وتجرع كأس السم في العام 1987؟ أوراق اللعبة الإقليمية مختلطة، للدرجة التي يقف رئيس وزراء الكيان الصهيوني محتاراً ويتحول إلى مادة تندر بسبب انسحاب وفده من قاعة الأممالمتحدة مع بدء روحاني في خطابه وعدم قدرته على فهم الغزل الأمريكي الإيراني الذي بدأ بحذر شديد من المسؤولين في البلدين. وهذا الأمر ينطبق على كثير من العواصم التي لا تزال تحلل التحول في الخطاب السياسي الإيراني تجاه الخارج بكلمة مدروسة لرئيسها وتجاه الداخل الذي ينتظر وعود روحاني بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، حيث بدأ بالإفراج عن نسبة ضئيلة لبعضهم جنسيات أمريكية وغربية والشروع في الديمقراطية الحقيقية التي بشر بها، بينما ينتظر العالم خطوة أخرى من طهران تكسر بها عزلتها الدولية.