- يشكِّل اللون البنية الكبرى في النصوص التي تنقسم إلى أربعة عناوين كبرى – لغة النصوص شعرية حين يشتبك النص مع الواقع.. وقد تتحوَّل إلى صرخات غاضبة حين أعلنت قصيدة النثر قطيعتها الجمالية والمعرفية مع الشعرية العربية بكل تاريخيتيها ومحمولاتها الجمالية، فإنها حاولت البحث عن جمالية جديدة تشكلت عبر مفهومي «القصيدة الرؤية»، و»قصيدة الحياة اليومية». وقد حاولت الأخيرة الاقتراب من اليومي والمهمش وتفصيلات الواقع المعيش بكل تناقضاتها وتوتراتها، حيث تستمد القصيدة شعريتها من ذاكرة الشاعر ومشاهداته ووجوده الخاص، الأمر الذي يحمل في طياته ميلا إلى الفردية المبنية أساسا على رؤية الشاعر للواقع والآخر، ويصير النص أداة لإعادة توليد «الأنا» ولإنتاج الخبرة الذاتية، كما يصير الجمعي مندمجا في تفاعلات الأنا وتناقضاتها معه أو انسجامها مع بعض مكوناته. إشكاليات الواقع غلاف الكتاب في نصوص ماجد العتيبي «بأقصى زرقة ممكنة» انشغال بإشكاليات الواقع، ومقاربة مع اليومي. هي علاقة تفاعلية مع التجربة الواقعية، تجربة المعيش واليومي بما فيها من خيبات وانكسارات، التحام بين النص والذات واليومي، بشكل تعلن فيه الذات تفردها واختلافها، وتعلن نية تمردها وانعزالها. وذلك بدءا من اختيار الاسم (لا أصدق أن اسمي ماجد / ربما وضعه أحدهم عند بابنا، وهرب / متأكد أنه أزرق). ومن اللون تتشكل بنية النصوص الأساسية، الأزرق بكل ما يحمله من إيحاءات: هو لون السماء والحرية، وهو لون الكتابة، لون البحر بكل فضاءاته، ولون وهج النار. وكأن النصوص بذلك تنحاز إلى حريتها وإلى أن تكون مواجهة مع الواقع، لاسعة كالنار، محملة بالغضب، تدخل إلى اليومي وتكشف عن نماذج البشر فيه معلنة في كل مرة تمرد صاحبها واختلافه (بأقصى زرقة ممكنة)، ورغبته في ألا يكون ونصه كالآخرين (أريد أن أنتحر في قصيدة / أريد أن أطلقني على النار)، (يشبهني هذا المتمرد على ظلمة المكان وضيقه / يحرك أطرافه / يركل، يرفس / يتوعد الدنيا بقصائد لا تبلى)،(سينطق سريعا / ليقينه بأن الأبجدية سيدة الفنون / وأن اللغة كنز / حروفها خرائط طريق)، (مللت الصمت، وعبودية الحياة / مللت مقاييس الكلام، / والجمل المؤثثة مسبقا بأمر معالي الخفير). ألوان ونصوص يشكل اللون البنية الكبرى التي تبنى عليها النصوص، إذ تنقسم إلى أربعة عناوين كبرى: أزرق يضع عطره، أزرق يحفر ترقوة، أزرق عالق في وجه، أزرق يطوي جلده. وتقوم كلها على تركيب أساسي «أزرق» يليه فعل، ما عدا الثالث الذي يقوم على الإضافة إلى اسم الفاعل الذي يحمل سمات الفعل بزمنيته والاسم باستمراريته. وتنطوي تحت كل عنوان مجموعة من العناوين الفرعية التي تشكل عوالم النصوص مجتمعة. يحتوي « أزرق يضع عطره « على العناصر التي بنيت عليها نصوص المجموعة: الذات / الشاعر، المرأة / الحبيبة، الجدة / الذكريات والأصالة، القرية /المكان. كما يبدأ بإعلان اختيار الهوية « أنا أزرق «، وتفردها (الأشياء الزرقاء لا تحدث مرتين)، والطفل الذي كانه، والرجل الذي سيكونه « المتمرد / الشاعر». ويشكل « أزرق يحفر ترقوة» علاقة الذات بالمجتمع: الآخرون / الغرباء، الأوغاد… والحياة اليومية بكل مشكلاتها وتناقضاتها، حيث الإنسان (ظل يمشي وحده) ويسير نحو اللاشيء، وحيث البشر يتصارعون ويراقب بعضهم بعضا، وحصار الإنسان بين التمرد والخوف، بين الإرادة والفعل (أريد أن أتنفس كما خلقني الله / لا كما تريد الفواتير / أريد أن أقول: لا، بكل طمأنينة / أريد أن أقول: نعم، بدون سوط) وحيث صوت الذات هو صوت الإدانة والغضب المليء بالإحباط. يتمحور الجزء الثالث (أزرق عالق في وجهه) حول التقايل بين الذات / الأنا والمرأة / الحبيبة، فتظل الذات عالقة بين وجهين: وجهها الخاص ال (محفوف بالعمر)، الذي يعرف ولا يفعل (مجنون، ضائع، مبعثر…)، ووجه الحبيبة التي تحمل سمات كونية، فهي القادرة على تغيير مفردات الكون، وبعث الحياة في الصمت، وجهها الشمس، الذي يضيء، الحياة في شكلها الجميل. ويأتي الجزء الأخير (أزرق يطوي جلده) مرتبطا بالنهايات وتعود فيه عناصر الكون الشعري التي وردت في الجزء الأول: الصدأ، الإحساس بالاغتراب (لا أعرفني)، الآخرون، الأيام المملة، العاشق المختلف، الصفاء المرتبط بالأسرة والطفولة والقرية. وكأن الجزء الأخير إعلان لاحتيار الوحدة حيث الفعل « يطوي « ينهي كل المحاولات السابقة: يضع، يحفر، عالق، ليصل إلى اختيار الوحدة وإقصاء الحبيبة / الجمال والحياة. تقابل وتناقض ضمن هذه الأجزاء الكبرى تبني النصوص شعريتها على التقابل والتناقض بين عالمين / مكانين: مكان الذاكرة ومكان الواقع، ومنهما تتشكل حركية التجاذب والتنافر بين الذات والأشياء المحيطة. يتشكل المكان الأول من القرية والأسرة والجدة، ويرتبط بمفردات السلام والصفاء وكل ما هو إيجابي. هناك حنين دائم إلى العودة، فالجدة التي أهديت النصوص، لها والتي ترد في عدد من النصوص، والقرية التي تشكل نصا افتتاحيا يلي الإهداء هما ما يمثل موقف المصالحة مع الواقع (في قريتي تولد الدهشات /هناك، حيث الجدات / يكتبن بكرات الصوف / قصائد للأحفاد) ومن هنا غالبا ما ترتبط هذه الذاكرة بالرغبة في العودة (سأعود إلي / من أجل الأشياء التي تعرف حمضي / ولا تعرضني للمرض)، وتأتي كلما اشتدت المواجهة مع الواقع (أشياء طفولتي الحبيبات يلوح بها الحنين / كلما رأيت عيون الصغار، كلما حاذيت المراجيح / كلما خنق زحام المدينة مشاويري، وكبلت الوظيفة حريتي) وبالتالي تصير الذاكرة حماية وأمنا و (جدتي تضفي على المشهد يقينا). نماذج بشرية في مقابل أمن الذاكرة يأتي مكان الواقع محملا بالسلب والقلق والاغتراب وقائما على تفاصيل الحياة اليومية وتقديم ما فيها من نماذج بشرية (الآخرون هم الهراء)، الأوغاد، الغرباء، الخفير، الجار الذي يوبخ زوجته، الطفل الذي يرجم سيارته، أو يبول عليها، الوظيفة والديون وأعباء الحياة اليومية، الملل والإحساس بالوحدة، الحياة التافهة… إلخ. ذلك كله في بلد يمتهن فيه الناس مراقبة بعضهم بعضا والتدخل في شؤونهم الخاصة، وهو لا يسميه بل يكتفي بالإشارة المكررة إليه: «هذا البلد» بشكل يعمق الإحساس بالمسافة (على عكس القرية التي تأتي مرتبطة بياء الملكية). (هذا البلد المملوء بالعيون / لا يتيح لك فرصة أن تتثاءب / دون أن يتلصص أحدهم على أسنانك)، (هذا البلد المملوء بالأسئلة / يفسد إجاباتك العزيزة / يرسم وجه الرسوب / في لافتات الطرق ومداخل الأحياء). فلا يكون أمام الإنسان فيه غير المشي دونما هدف وبلا غاية (الشيء الوحيد الذي يمكنك ممارسته هذه الأيام / أن تطأطئ رأسك، وتحاذي خطواتك / كي تمشي بلياقة نحو اللاشيء). والمخرج الوحيد من هذه العدمية هو أن تتمسك الذات باختلافها وبالكتابة هوية لها « أن يكون الأزرق» الذي يحاول كتابة قصيدة مختلفة ويؤسس مفهوما جديدا للحب تكون فيه المرأة هي الحياة والجمال، القادرة على بعث الحياة بوجودها وملامستها الأشياء (مثلا قصائد: وجه يضيء، لوحة الضوء في جبينك، وملامحك، مزاج عال، أهزوجة وغيرها). سهلة صعبة حين يشتبك النص مع الواقع فإنه يختار لغته الشعرية التي تنحو في عدد من النصوص صوب اللغة السهلة التي تقترب من مفردات الحياة اليومية، بل إن الشاعر قد يوظف كلمات عامية نحو: تحويشة، المشاوير، المفعوص، النتفة وغيرها. إنها محاولة واعية لكتابة القصيدة السهلة الصعبة التي تعتمد على شعرية التفاصيل. غير أن هذه اللغة تقع في النثرية والخطاب التقريري المباشر، وقد تتحول إلى صرخات غاضبة حيث تميل الألفاظ إلى الحدة وتتصف بالسلب والعنف (قضموا، البشاعة، أنصال، سكاكين، سنوا، سرقوا…)(مثلا قصيدة « طيش بطول 90 سم) أو (الواقع أن تضع ساعة منى في معصمك / أن ترش عطر نورة على قميص مشاعل …). وقد تصل إلى الوقوع في عدد من الأخطاء النحوية والإملائية (مثلا ص 35، 39، 50، 53، 58 وغيرها). وتنجو هذه اللغة من النثرية عندما تنتقل إلى مستوى آخر من التعبير بالصورة ومحاولة إقامة علاقات جديدة بين الأشياء (نحو: النحاس صوته أزرق، البلابل الخضراء حناجرها زرقاء، دقوا المسامير في فضاء القطع المنهوبة… إلخ). وهو ما يحدث أيضا عندما تتكثف اللغة عبر الحوار مع التراث ومحاولة إعادة تشكيله سواء عبر توظيفه (لاسيما قصة يوسف وقابيل كما في «ظل يمشي وحده»، «وجه يفتح الباب») أو عبر التناص مع اللغة القرآنية («والألوان كلها فاقعة / إلا عينك التي لا تسر الناظرين»، «خذوه، ولا تدري متى يغلوك / حتى لا يقطعوا ذراعك ويقيسوا بها سلسلتك، ونص أهزوجة الذي يقوم كاملا على محاكاة اللغة القرآنية والتناص الواضح معها، وغير ذلك). إضافة إلى ذلك تعتمد بعض النصوص على استعارة آليات من خارج الشعر: سرد توصيفي لمشهد ما مبني على شخوص وزمان ومكان (أول رجل وقع في الحب، ليس تماما)، أو الحوار المسرحي (حوار الحضارات) بشكل يعيد إلى الذاكرة ما ذكره لوتريامون عن قصيدة النثر التي هي شكل شديد الحرية يقبل بالسرد والحوار. قصيدة نظيفة هكذا تشتبك النصوص مع الواقع، وتقيم علاقة تفاعلية معه تبقى بين مد وجزر، قبول ورفض، وهو الأمر الذي انعكس على ثنائية عوالمها: مكان الذاكرة (القرية) / مكان الواقع (هذا البلد)، وثنائيتها اللغوية التي تراوحت بين التقرير والمباشرة والتكثيف الصوري والاعتماد على التناص، ليعيد الشاعر بذلك تكوين عالمه واختياره في أن يكتب القصيدة التي لا تتعرض للتلف أو «القصيدة النظيفة»، كما سماها، وليحقق اختلافه وتمرده واختياره أن يصل بالأمور إلى مداها «بأقصى زرقة ممكنة».