الراعي يهرب إلى الدين ولطيفة للفراغ وماجد للذاكرة تناول الروائي والقاص والناقد الدكتور أشرف الخريبي قراءة نقدية لقصائد نشرت (بجريدة "عكاظ " ص 11 - ثقافة العصر) , لثلاثة من الشعراء وهم : علي أيوب , عن قصيدتيه "أفر من الثلج إلى الحج , وأقرأ وجه الوطن " , و " وللشاعرة لطيفة قاري , قصيدتيها :" الغرفة الخالية , والسرب " ولجمال سعيد , قصيدة : ( سؤال واحد لاتكفي ). يستهل قراءته النقدية بتأكيده إن القضية الأساسية لا تكمن في إطار الرؤية أو الموقف الذي يبتغيه الشاعر لأن الشعر وبصفته تشكيل جمالي يستعين بلغته علي كافة المستويات من حيث التركيب والدلالة والإيقاع مع مجموعة العلاقات التي تتداخل في مكونات النص كاللفظ والمعني والشكل والمضمون ليقدم ما يطرحه النص من أفكار ومعان وقيم إنسانية فى هذا التشكيل من ناحية ويقدم رؤية خاصة لبعض القضايا وأزمات الواقع من ناحية أخري. ولذا لا يمكن الفصل بين الفكر وتوجهه الرؤى وبين اللغة المنتجة لهذا النص بكل معطياتها لأنهما يسيران فى خطين متوازيين في النص الشعري. فتلك المشاعر التي يعيشها علي أيوب في فراره من الثلج التي تتسم بالتبعثر والشتات وملامح مليئة بالضباب والثلج ووقت الليل الذي يمنح الإيحاء بالغربة والاغتراب في مقابل مشاعر حميمة وعواطف جياشة تراها في تراب الوطن وملامحه،في قصيدة أفر من الثلج لعلي أيوب وهو يقول: " حيث النخيل يصافح شمس النهار وحيث التحية فيض من الود " . ويضيف د. الخريبي فى مقابل ليل يعكس ثلوجه وغربته ومن هذا التناقض بين زمنيين مختلفين فى الطرح الشعري ومكونات الصورة الشعرية فى كل منهما يظهر وجه الوطن. مؤكد أن هذا الموقف المتخذ من الشاعر للفصل بين لحظتين زمنيتين جاء علي مستوي المفردات واللغة الشعرية والفكرة.وكذلك الرؤية للعالم فنجد النص في ترتيبه الزمني ومن موقف أيدلوجي يقدم ذلك الفصل الحاد فى عنصر الزمن منسحبا على الصورة الشعرية وعلى كون المفردات وترتيبها أيضا فحرارة العاطفة وسكبها بمشاعر صادقة متقدة مستخدما مفردات ( النخيل شمس النهار الود التحية ) في مقابل برودة تلك العاطفة وجزعه من كل شيء حوله مستخدما مفردات ( كفن المساء الضباب الصخرة الجليد ) وقد ساعد ذلك علي توصيل الفكرة بسهولة ويسر مع ذلك لا يغرينا هذا الموقف الأيديولوجي للشاعر وهو يتحدث عن تجربة لمسها بنفسه إنه لا يحاول أن يجعلنا مشاركين معه في ذلك الرفض ولا يعطينا تلك التفاصيل المدهشة للتجربة الشعرية فنقف أمام النص .. حائرين لا نشترك معه ولا نتفاعل . ويغوص بتفاصيل قصائد الشاعر أيوب بقوله : " لغة الخطاب الشعري فهو يرصد أكثر لكي نستمع له ولا نتواصل كثيرا ولا تجدي المحاولة .. حيث لغة الخطاب الشعري لغة قرارات وهى لغة أقرب إلى الوصف المادي من كونها تحلق فى فضاء النص وتقدم مستوى جديد للفكرة وتخلق بوجودها بنية محلقة مع كم المشاعر المتراكمة لدى الشاعر لكي تخلق حالة معنوية وليست لغة حوار.. ومع ذلك نري أن النص يفتح لنا ضوء من نوع أخر هي تلك الحالة من الحكي المكثف والمركز علي لحظات بعينها لتوضيح الموقف الشعري من خلال التوصيف.( وكفاي في المعطف الصوف ...اصطك حتى امتلأت بمرآي البيوت الصغيرة )وينهي الشاعر قصيدته بذلك الانعكاس لحبه للوطن .ويشهد ذلك الوجه الحميم ( وجه الوطن ).ولعل هذا الحصار الذي وقع فيه الفن في قصيدة أفر من الثلج بين الايدولوجيا وسلطة الحكي من المأزق الممكن الخروج منه إلي دائرة أخري أكثر توهجا ؛ حيث أن العملية الإبداعية تعتمد في مكوناتها علي مساحات شاسعة من الحدس والحلم ولا تكتفي بما يُلقي أمامها من مكونات وعناصر جاهزة.لتنحصر الصورة الشعرية وتكتفي بالمساحة الزمنية المتاحة ". ويتناول قصيدتي الشاعرة لطيفة قاري موضحا بقوله : " تفترق قليلا عن لغة الخطاب المباشر الذي يعكس الفكرة وفقط ولا يتخذ من لغة مستوى أخر للبناء فنري عند لطيفة قاري في ثلاث قصائد السرب – سدرة الخدر – الغرفة الخالية.. المسافة الزمانية التي تمنحها لطيفة قاري في صورتها الشعرية ورسمها لليومي الغائب محاولة أن ترصد صورة من الواقع تركز علي لحظات مختلفة ولقطات ضيقة في حدوثها ولكنه ثرية الدلالات متوهجة ونابضة بالحياة وتظهر تلك المساحة الهائلة التي تصنعها في قصيدتها الأولي " الغرفة الخالية " تصور ذلك الإيقاع الهادئ الخافت البطيء لتفاصيل ثرية بأحداث الذاتي وتعتمد في رصدها لهذه الدوائر الحصارية حصار الواقع المعاش علي مفردات المكان وتبقي للبنية المكانية رصيدها الهائل في نفس الشاعرة فنلاحظ مفردات ( الغرفة الخالية المكتب خيط رفيع فراغ السقف الأوراق الخالية الهاتف الثواني الزاوية برودة ) وكل شيء مع ذلك الفراغ ولحظة التأمل محاولة أن تمسك تلك اللحظة المبهمة الغير واضحة فى الذات والعالم يتفاعل معها يسقط من الواجهة ويصبح باردا لأن الأسئلة متاهة والأجوبة ضباب، ثمة شيء لا يتضح ولا يفجر نفسه ولا تواصل مع شيء والرؤيا لا تنضج حيث يقطعها لاهث الواقع ورنين الهاتف الذي يقطع لحظة التأمل وبريق الرؤيا الذي يتبدى فى الظهور ( ذلك الجمع الغريب الملون )" . ويضيف : "وكما فعلت مع النص الأولي تقترب كثيرا من لغة الحكي لتمرر صورتها الشعرية ورؤيتها فهي لا تحاكي تلك الصور الجزئية المرتبطة مع صورة كلية شاملة، ولكنها تمنح للمتلقي تلك التدفقات الشعورية معتمدة علي التصوير أكثر من اعتمادها علي التجريد مع تكثيف اللحظة إلي أبعد حد والتركيز علي المفردات حتى لو استخدمت آليات أخري في البناء الفني كآلية التكرار ولكنه ليس تكرار صور ومفردات بعينها فقط إنه تكرار لحظة وموقف تأكيدا عليه لترسيب وترسيخ الصورة في ذهن التلقي (من أين أتوا ؟والي أين هم ذاهبون ؟) تكرارها ثانية فيمن أين جاءوا , والي أين هم ذاهبون ؟ ) (كتب عليه أن يرتمي كالقتيل وان يبارك قاتله) تكراره ثانية في ( وارتمي كالقتيل , فبارك قاتله ) إن تكثيف اللحظة والمواقف المماثلة والعالم الذي يتفاعل مع الذات والأسئلة التي تتداعي وحين تهم الشاعرة أن تستسلم للفراغ والملل بدلا من ذلك الحصار ( أوشكت أن اترك النافذة وان أتسلي بقضم الفراغ ) إنها لا تستسلم للمواقف فتحاول أن تخرج من ذلك الحصار الواقعي ". وعن قصيدة الشاعرة لطيفة قاري الأخيرة (سدرة الخدر) يبين د . الخريبي : " تعود أدراجها للبحث عن الذات البحث عن الغائب، البحث عن الإنسان في ظل ذلك اليومي المفقود . تتخذ قيما ومعايير إنسانية عميقة الدلالة كبيرة الأثر ولكنها أيضا هنا من ذلك الحميم الذي يستدعي التواصل ويتداعى معه الحلم ولحظة النور المتوقعة . كان في الوقت نفسه هناك ما يعكر صفو ذلك الحميم وتطرح الشاعرة التساؤل علي الذات وتعيد الطرح دون فائدة تتوقف الشاعرة منهكة مما حولها، حيث تعود لدائرة السؤال الذي لا يتوقف فى البحث عن إجابة " ؛ ( كان يومي يتثاءب ويخلو إلي سنه من حلم ) ( وقد عز عليه الإياب من سدرة عاث فيها الخدر ) ولعل ذلك الحصار يبقي بكل أبديته وانفعاله وجبروته ويظل الشاعر يحاول الخروج من دائرة الحصار الواقع اليوم وينهض مرة ويفشل مرات ولكنه في كل مرة يخرج لنا معان وقيم إنسانية نبيلة متفقة مع أطروحاته وأفكاره . ويختتم قراءته : " يعود ماجد سعيد بنا إلي الذاكرة إلي تلك الطفولة إلي ذلك الكنز الغالي في عمر الإنسان الفرد والتجربة التي يعيشها الآخرون إلي مزيد من المخزون من الخبرة الإنسانية العميقة علي مر السنين .وهو أيضا أسير ذلك الواقع نفس الحصار الذي رصده علي الراعي ورصدته لطيفة قاري .إن هما واحدا مشتركا، يجمع الشعراء وإنسانية واحدة تربطهم ولا شك فيشتركون معا في رصد أزمة الواقع وأزمة الإنسان المعاصر رغم تعدد الأطروحات واختلاف الرؤى ولكن كل منهم يحاول النفاذ إلي كبد الحقيقة إلي ذلك الهاجس ويظل السؤال يدور بالشاعر ( كيف يبقي أسير النوافذ ) قد يكون من المفيد أن يهرب كما فعل علي الراعي مع تجربته الواقعية . ولكن ماجد يهرب إلي الذاكرة إلي خبرة الأجداد إلي محمود درويش وما قاله كي يشتكي له من تلك الأزمة الإنسانية إلي جده لا يهرب للفراغ كما فعلت لطيفة قاري ولا يهرب لعفو الدين وسماحته كما فعل علي الراعي إن لكل منهم طريقة في تحدي الواقع ومحاولة التوصل مع أحداثه ولهاثه المستمر وجدليته الصاخبة .ويظل باقيا أمامنا جمال الشعر وصفاءه وأبديته في وصف واقع الإنسان اليوم .في محاولته دوما أن يصعد بنا إلي أجمل وأعمق المعاني الإنسانية بما يضيف لخبرتنا من أنساق جديدة. 1