ما الذي يحدث عند موت الكاتب؟ هل تموت كلماته معه؟ أم تظل حية متحدية فناء الجسد ومآله؟ هل سوف يحزن قلمه لفراقه؟ هل ستدمع محبرته لرحيله؟ هل يشتاق الإلهام لصرير قلمه، وإصرار فكره، وصيرورة خياله؟ هل يلحظ القراء غيابه؟ وهل يفتقده أحدهم أو يبكيه؟ وهل سوف يكون مآله أسطراً قصيرة وحروفا صغيرةً في زاوية الوفيات، هنالك في أسفل الصفحة، بعيدا عن الأحداث المثيرة، والإعلانات المهيجة للمشاعر بصورها المتمايلة، وألوانها الساحرة، في ركن النسيان المظلم حيث يختفي الفعل يكون وأصدقاء مضارعته، وحيث يتصدر الماضي الكئيب وعملاؤه كان ورحل، وترك ومات، وغاب واختفى. ماذا سيقولون عندما يموت الكاتب؟ أغلب الظن أنهم لن يحسبوه في عداد الشهداء، فكيف يعد موت الكاتب شهادة ولم يغبر وجهه في لقاء عدو؟ ولم تمزق جسده نار متفجرة جعلت خندقه لحده، والبارود حنوطه، والسحاب كفنه، لا أظن الناس يصدقون ادعاء الكاتب بأن كلماته في حقيقتها نزف من جرح غائر في أعماق روحه، و ما أخالهم يوافقونه الرأي بأن صوره وأخيلته، والمشاعر النابضة في ثنايا حروفه، ما هي إلا حكايات ومشاهد مؤلمة خاضها على صهوة الفكر وهو يهز قلمه البتار، ويدعو الأبطال للنزال. هل يعلم الناس أن الموت كان أمنية الكاتب وغايته، وراحته وخلاصه، من معاناة لا تنتهي، وألم لا يمل، وحزن يتجدد، وجرح ينكأ ويفتح كلما التأم وطاب؟ ولم يعنيهم موته أو يهتمون لألمه وأنينه ونزفه؟ هل كان يعاني ويتألم لهم وبهم ومن أجلهم؟ أم كان عناؤه تجربة أنانية محضة لا تتعدى حدود ذاته الصغيرة؟ ولهم العذر إن خالطتهم تلك الظنون وتقاذفتهم أمواج الشك، فقد كان في حياته يضحك ملء فيه، ويسخر من كل شيء، ويقهقه كالمجانين، ويتحرك كالممسوس، ويتكلم بلسان ثقيل كأنه يحكي قصة بذرة العنب وكيف استحالت إلى ورقة خضرة، وزهرة نضرة، وعناقيد الشهد، وشطحات الخيال، ويهذر بتمتمات وكلمات، ظنها الكثير خرفا، ولم يعها إلا القلة. كان ليله عبثا ولعبا، أو هكذا ظنوه، ونهاره نوما عميقا، أتراه كان يسهر حتى لا يباغته الظلام بعيونه وجنده؟ أم لعله رأى في الشمس- ما لم نره – حارسا أمينا يرعاه ويحميه عندما يغمض عينيه ويغفو؟ هل كان يخادع الليل بسهره وضحكه ولمعة عينيه؟ هل كان في حقيقة أمره ذلك المتخفي الذي يرعى النيام ويحرسهم، ويمر على أسرتهم، ويرفع الغطاء الملقى، ويغطيهم لكي لا ينغص البرد راحتهم، ويهمس في آذانهم أحلاما سعيدة ورؤى جميلة؟ ويقبل جبينهم كأم حنون، و يدعو لهم، ويبشرهم بغد أجمل، وفجر ضحوك ملؤه الأمل، فإذا ما أفاقوا آمنين ومطمئنين، أغمض عينيه فرحا بسلامتهم، وتمتم قائلا: حان وقت نومي، حان وقت نومي.