تخرجُ الجثثُ من رفاتها تخرجُ من عويل الأرضِ من ليلٍ يجثم فوق رأس المدنِ الخرقاء تخرجُ في أعماقها أمسٌ كهذا الليلِ تحملُ رائحة الطينِ إذ تفنى وتذرو قبل آنِ البعث ريحا للقيامة تعودُ من كل الجهات متسلقة عقارب الوقتِ مقاومة زحف الثواني والساعاتِ صوب اللاعودة وإذْ تنسى أنها بلا حياةٍ تنتشر في المدينة تراعي حاجاتها كما كانتْ تفعل قبل أنْ تحترق مثلا: تجلس جثة عاشقة في مقهى «الموعد الجميل»/فينكرها النادل المتوقّفُ دمُه من الفزع/ ومع هذا تمكث تنتظر حبيبا لا يأتي/ تحسبه نسيَ العشقَ/ و… حبهما في سفر الملتاعينَ/ لكنه-المسكين-يفتش عن وجهِ حبيبته تحتَ جبالِ الخراب/ وبين شظايا القذائف/ وفي جيوبِ الموتِ البريء من دمها/ لكلِّ جثة مكانٌ يشاركها فجائعها لجثة العاشقِ الحديقة… للجائعِ مخبزة بلا طحين للجشع قبرٌ لشخصين للصادقِ السماءُ أما جثة الشاعر الحداثيِّ -مثلا- فتستفيقُ عند رصيف مسجد/ مرميةً بلا لسان/ تحاولُ الكلام فلا تجدُ بعض الحروف/ وتفتقد جميعَ أدوات الرفض: «لا» على سبيل المثال/ تتوجه إلى شارعٍ كاملٍ في المخيال/ خرِبٍ في واقع حربٍ تعوي/ تتوجّهُ مثقلةَ الخطى كقصيدة مثقلة بالزحافات/ لا ريب أنها جثة شويعر كانتْ، ما علينا/ تقف تنخرها الدهشة من هول الخراب الذي تراه/ تحاولُ بكاءً على أطلال المكانِ/ فتتعارض أفكارها التقدمية مع فكرة الوقوف على الطلل/ تتذكر قولَ شاعر لا تذكره (أبو نواس، ربما) يقول: «قل لمن يبكي على رسم درسْ واقفا ما ضرّ لو كان جلسْ» تجلسُ/ تحاولُ شعرا حداثيا فلا تسعفها القريحة تحاول إنزال قصيدة من شجرة روحها اليابسة/ فتخونها الجاذبية وفي الأخير تنزل من عينها المفقوءة حصى صغيرة/ تتخيلها دموعا تبكي حتى ينهارَ الشاعرُ أمام الشارع المنهار وفي وسطِ ساحة عليها لبوسُ الحزن/ورائحة جيفٍ تنبحُ/ تستيقظ جثتان متعانقتان بقوة كأنما بينهما محبة/ تسترجعان ببطء صورة العالم وصورتيهما/ تنظران في ملامح بعضهما المهترئة/ ثم تفزع كل واحدة بعيدة عن الأخرى/ تفزعان كأنما بينهما عداوة صرخت الجثة الأولى: يا صنم الرجعية الثانية: يا داء الأمة وقالتْ الساحة: هاتان جثتا علماني وإسلاميّ/ أجهشتْ عليهما مدفعية بقذيفة فتعانقا/ دون تفكير في اختلاف الرؤى/ دون احترامٍ لدونكيشوت الأيديولوجية/ تعانقان لأنّ مأساة الإنسان واحدة/ ولأنَّ القذيفة لا تفرّق بين العلمانيّ والإسلاميّ/ ولا تعرف رصيد كلٍّ منهما من الحسنات/ وقبل أنْ تكملَ الجثث تسكعها الأخير/ يعودُ الجند، وبأسلوب التوكيد اللفظي، يطلقون رصاصة في كل جثة/ أو فيما تبقى منها/ هناك من فقد رأسه/ وحين يتحسسه -على طريقة صلاح عبد الصبور- يحسبه موجودا هناكَ من لم يبقَ منه غير يده اليمنى/ وإصبع السبابة منتصبا/ لكن رصاصة التوكيد اللفظية تأكل السبابة وتقف للشهادة أما الذين صاروا هباءً/ فيتسكعون في المدينة يدونونَ شهاداتهم ليوم القيامة/ يمتطون النسيم خفافا/ ويراقبون دفاع الناس بعضهم ببعض.