ذكر النبيُ – صلى الله عليه وسلّم – أن المنافق (إذا خاصم فجر) ويرى الصوفية أنه لا يُمكننا معرفة الشيء إلا بوساطة نقيضه، فالنور لا يُدرك إلا بوجود ظلام، والصحة لا نستشعرها إلا حين نمرض، والشر معادل موضوعي للخير، ولولا بشاعة الأشرار لما التزمنا احترام الأخيار واحتفظنا بأفضالهم على الكون بطيبتهم وحُسن أخلاقهم وحضارية تصرفاتهم، ومن الأولويات عند خوض غمار المعرفة والبحث، وإبداء الآراء التسليم بأنه لن يرضى عن قولك ومنقولك كلُ الناس، ولا النصف منهم ربما، وعدم الرضا لا يعني العداء دائماً، بل هناك حسابات وحساسيات معلنة وخفيّة، فالبشرية منذ قابيل وهابيل توارثت الحسد الآدمي، والصراع الطبقي، والنزاع العائلي، والصدام القبلي، والجدل المذهبي والتنافس الاجتماعي، والطموح لنيل وجاهة وظيفية أو ثقافية، ونحن نرضى عن عباداتنا إضافة إلى العقيدة النقيّة الخالية من الشرك بالله، إلا أننا نشرك بالله فيما نحقر من أعمالنا «التحريش» صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال «إن الشيطان قد يأس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، إلا في التحريش بينهم» وهو من أسوأ ما يمكن أن يوقعك فيه الحقد أو الحسد أو الافتراء أو الرمي بالبهتان، أو استحلال دم أو عِرْض إنسان دون وجه حقٍ قضائي أو عرفي، والقرآن الكريم دعا إلى العدل مع المخالف ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) بالطبع هناك أنفس بشرية، مهما وعظتها فلن تصل إلى تبديل قناعاتها، قال بعض العلماء الطبيعيين» العربُ أكلت لحم الإبل فورثت الحقد» وما داحس والغبراء إن صحت روايتها إلا ترجمة لما تغلغل في الصدور من حسد وحقد ناتجين عن منافسة في الشرف، أو الفضل أو الريادة، فنحن أمة «ثأرية» بالتوارث، ومنتهج الثأر أعمى لا يلتفت إلى حلال أو حرام، ولا يعنيه حق من باطل، ولا يكترث لعقوبة دنيا ولا جحيم آخرة، وبعض إخواننا الصالحين لا يتورعون عن غَيبة ونميمة، ظناً منهم أنهم يتقرَّبون بها إلى الله، ومستندهم في كتب التاريخ أن زعيماً إسلامياً ذبح مائة ألف من المسلمين المخالفين معتقده أو مذهبه، ثم بنى من جماجمهم منارة، وأمر المؤذن أن يعتلي الجماجم ويرفع الأذان!! ومن الظلم الحقد على إنسان اختلف معك في رأي، أو ضادك في فكرة، أو خالفك في مذهب، أو ناقشك في طرح سياسي أو ثقافي أو معرفي أو اجتماعي، فالله عزّ وجل كفل لكل ذات بشرية حُريّتها ومنحها خصائصها المختلفة والمتباينة عن أقرب الناس إليها، وآراء البشر اليومية ليست كلها إرادية، بل قد تأخذ شكل العفوية كونها نتاجاً نفسياً وعقلياً وشعورياً وجينياً غير ثابت، ومؤشره متأرجح، بحسب ظروفه الزمانية والمكانية والمعاشية، وربما ألتمسُ عذراً لبعض الأبرياء من إخواننا العرب والمسلمين في الداخل والخارج، إلا أن بعض المُنظّرين المتعصبين يروِّجون مصطلحات تؤسس للحقد والبغضاء والكراهية والنفور والقتل والتدمير للمخالف من خلال طرح متشنج أعمى، وغير مستند لروح الشرع الصريحة ولا نصوصه الصحيحة، ويعتمدون منهج الوأد المعنوي بتشويه صورة المخالف ونعته بأوصاف منفّرة لا يفقه معناها كثيرون وإنما يرونها مذمّة، ومما يُروى عن المفكر أحمد لطفي السيد أنه عندما ترشح للبرلمان عام 1900م، ذهب منافسوه إلى القرى والأرياف يروِّجون أنه يدعو للديمقراطية، فغدا الناس البسطاء يردون «أعوذ بالله، أستغفر الله العظيم، قبّحه الله» ولا ريب أن «الله أعدلُ من أن يختار لنفسه فريقاً من الناس دون فريق» كما قال المُفكّر علي الوردي.