يمكن قول كثيرٍ، اجتماعياً وثقافياً، عن كيفية تنظيمنا رؤية الهلال. سأحاول أن «أقرأ» الجوانب الثقافية وتأثيرها في هذا التنظيم. قبل ذلك، سأقدم لمحة مختصرة عن موضوع الأهلّة. سأعتمد في جُل معلوماتي على ما كنت جمعته من معلومات عن الموضوع لبحث أعددته سابقاً حول المسألة، إضافة للمعلومات الجامعة التي وجدتها مؤخراً في بحث للدكتور مسلم شلتوت الأستاذ في المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية بجامعة حلوان، المعنون ب»مدى دقة الحسابات الفلكية في إثبات الشهور الهجرية»، الذي حوى معلومات قيّمة حول الجوانب التقنية والتنظيمية لهذه المسألة. علم الفلك، فيما يخص رؤية الهلال على حالين: يقيني وظني (وقد استخدمت الكلمتين لأني لم أجد أنسب منهما، وإلا فبعض جوانب «الظني» أقرب ل»القطعية»). فأما اليقيني فهو الإخبار بوقت ولادة الهلال (الاقتران)، ووقت غروبه (والمهم فيه أن يُعرف هل يغرب قبل غروب الشمس أم بعده؟ وإن كان بعده فكم يمكث في السماء بعد غروب الشمس؟)، ومقدار ارتفاعه عن الأفق وبُعده عن الشمس. وأما الظني، فهو المتعلق برسم الحد الذي يمكن عنده قبول الرؤية أو ردها، إن كان شرطا الاقتران والمكث متحققَيْن. وهناك عدة نماذج حسابية فيما يخص هذا البعد الظني، أشهرها نموذج مؤتمر تحديد أوائل الشهور الهجرية المنعقد في إسطنبول سنة 1978م، الذي يشترط أن «يكون ارتفاع القمر فوق الأفق بمقدار (5) درجات، ويكون بُعد القمر عن الشمس (الاستطالة) بمقدار (7) درجات». ويتمحور الإشكال حول الوقت الذي ينبغي للقمر مكثه بعد غروب الشمس حتى يمكن قبول القول برؤيته. فالنموذج أعلاه يقتضي مكثاً لا يقل عن عشرين دقيقة. لكن التقدم التقني سمح لكاميرات ذات حساسية عالية، المعروفة ب(CCD)، أن تكبر أحجام الأجرام السماوية مئات المرات. هذه التقنية جعلت الوقت المطلوب للمكث ينخفض، بحسب اقتراحات بعض الفلكيين، من عشرين دقيقة إلى ثماني دقائق فقط. المسلمون، دولاً وهيئات، على ثلاثة أحوال في طرق دخول الشهر الهجري واعتبار الحساب الفلكي في هذه المسألة. الأول، يأخذون بالحساب الفلكي بديلاً عن الرؤية (مثل تركيا والجزائر وماليزيا). الثاني، يأخذون بالحساب الفلكي كمدخل للرؤية، لكن ليس بديلاً عنها (مثل مصر). في هذه الحالة، ترفض السلطات المعنية (مثل دار الإفتاء في مصر) قبول الشهادة بالرؤية إن تعارضت مع قطعي الفلك والأسس التي يضعها الفلكيون للرؤية المقبولة حتى لو كان هناك هلال، مثل رفض الشهادة إن كان مكث القمر بعد غروب الشمس يقل عن دقائق معينة وبقدر معين من الارتفاع عن الأفق. الثالث، دول ترفض إشراك الحساب الفلكي في تقرير الرؤية (مثل السعودية وباكستان والمغرب). وإذا استبعدنا المجموعة الأولى، وهي بالمناسبة غير متجانسة في مناهج حساباتها لشروط دخول الشهر الجديد وتتبع طرقاً مختلفة، فإن المجموعتين الأخيرتين تلتزمان بالرؤية المشترطة بالأحاديث النبوية، لكن الفرق بينهما أن واحدة تستأنس بالظني من الحسابات الفلكية، فيما الأخرى لا تفعل ذلك. ولأن تنظيمنا المحلي للمسألة يقوم على قبول شهادات العدول برؤية الهلال وعدم الاستعانة بمقولات علم الفلك لقبول هذه الشهادات أو دحضها، فقد ظهرت مطالبات من علماء فلك ومثقفين، أشهرهم الدكتور حمزة المزيني، بالاستئناس بعلم الفلك لقبول الرؤية أو ردها. يطالب هؤلاء برد شهادات الرؤية المتعارضة مع الحسابات الفلكية، وليس بإلغاء طريقة الرؤية واعتماد الحسابات الفلكية فقط. بكلام آخر، يطالبون بالاستعانة بالحساب الفلكي للنفي فقط (أي نفي الشهادات غير المتسقة مع الحسابات)، وليس للإثبات (أي إثبات دخول الشهر). ويُجري فلكيون دراسات تدعم هذه المطالبات. فقد قام عدنان قاضي بمقارنة «يومي الدخول الرسمي والفلكي لشهر رمضان» في المملكة لستة وأربعين رمضاناً (1380-1425 ه)، ومعيار الدخول الفلكي لديه هو مقاييس مؤتمر إسطنبول المشار إليها أعلاه. وقد وجد قاضي أن الدخول الرسمي وافق الحساب الفلكي في ست مرات فقط (13%)، فيما عارضه في الأربعين الباقية (87%)، 29 منها كان الهلال تحت الأفق وتستحيل رؤيته. هذه النتائج قادت الباحث لأن يقطع قائلاً: «الآن لدينا الدليل العلمي الذي يُظهر بوضوح أن الطريقة التقليدية لإثبات الشهور بالرؤية المتبعة ل46 سنة فائتة كانت طريقة تتعارض مع المنهج العلمي لعلم الفلك الحديث، أي فرد يدعي أنه رأي الهلال في الوقت الذي يكون فيه الهلال تحت الأفق، فهو شاهد المستحيل». يقرر الباحث، إذاً، أن الطريقة التقليدية في قبول الشهادة بالرؤية، التي لا تقيم للحسابات الفلكية أي اعتبار، مرفوضة ب»الدليل العلمي» الذي أثبت أن هذه الطريقة تتعارض مع «المنهج العلمي». كما أصدر مركز فلكي في جدة قبل سنوات بياناً قال فيه إن ما شهد أنه هلال رمضان كان حقيقةً كوكب زحل، وأن الحالة سبق أن تكررت مع كوكب عطارد أيضاً. ويقول علماء الفلك إنه وفي حالات نادرة جداً يمكن أن يُرى محاق آخر الشهر في مساء اليوم التاسع والعشرين إن كانت ولادة الهلال الجديد ستتأخر إلى ما بعد منتصف تلك الليلة. ويجادل حمزة المزيني على مدى سنوات، بأن المحكمة العليا، ومن قبلها مجلس القضاء الأعلى، يقبلون شهادات أناس واهمين بسبب عدم الأخذ بالحسابات الفلكية، مورداً حالات على شهادات تم إعلان دخول الشهور على أساسها رغم أن الهلال لم يُولد أصلاً. وقد صنَّف المزيني كتاباً في هذا الشأن، عنونه ب»شهود الوهم» تضمَّن نقاشات طويلة لشواهد إعلان الشهور بما يتعارض مع الحسابات الفلكية من ناحية ونقاش الأسس الفكرية لمواقف مجلس القضاء والمحكمة العليا وقرارات هيئة كبار العلماء في هذا الخصوص. وشهدت طريقة تقويم أم القرى عدة تغيرات على مدار السنوات الماضية. فقد توصَّل كل من الحافظ ومصطفى إلى أن طريقة هذا التقويم شهدت منذ 1370 التغيرات التالية: -1 من 1370 إلى 1392ه: يبدأ الشهر الهلالي (في اليوم التالي) إذا كان الهلال الجديد مساء اليوم التاسع والعشرين فوق الأفق بأكثر من تسع درجات لحظة غروب الشمس. -2 من 1393 حتى 1419ه: اشترط أن يحدث الاقتران قبل منتصف الليل بالتوقيت العالمي يوم التاسع والعشرين من الشهر القمري، وتجدر الإشارة إلى أن الشهر الهجري يبدأ إذا زاد عمر الهلال وقت الفجر عن 12 ساعة، وفقاً لما قرره مجلس الإفتاء الأعلى في المملكة العربية السعودية. -3 من 1419 إلى 1422 ه: اشترط أن يغرب القمر بعد الشمس مساء يوم التاسع والعشرين من الشهر القمري، بغض النظر عن لحظة حدوث الاقتران. -4 منذ 1423 ه: يبدأ الشهر الهلالي في اليوم التالي إذا غرب القمر بعد الشمس وكان الاقتران قد حدث (ولو بدقيقة) مساء اليوم التاسع والعشرين. وفيما يلاحظ تشدد الطريقة الأولى وتعارضها مع كثير من حالات الرؤية المقبولة رسمياً، فإن الطرق التالية تسمح لهذا التقويم أن يستوعب ويتماشى مع شهادات الرؤية المتعارضة مع الشروط الفلكية. أي أن منهجية التقويم عدلت لصالح الرؤية مبتعدة عن اشتراطات علم الفلك. في المقالة القادمة سأعرض بعض حجج المؤيدين لعدم الأخذ بالحساب الفلكي، ثم سأقدم تحليلاً لضعف حضور الحسابات الفلكية في نموذجنا. المحلي.