في قريتنا كانت توجد شجرة حناء في كل بيت؛ يلمع لونها الأحمر في كفوف المليحات طوال أيام العام، وهي تساوي في العطاء منيح الدار التي لا ينقطع لبنها، وكان هناك منديل أصفر، وطيب محلب وثمرة وبخور جاوي، وبالطبع فلكل طفلة في قريتنا أربع جدائل من الشعر الطبيعي، ووجه طاهر كالندى لم تلوثه مساحيق الحضارة، وأرجو ألا يذهب بكم الخيال بعيداً؛ فقد تغير كل شيء، ولم يبق لدينا إلا مواقع الشجر والأيام والليالي وكثير جداً من العبوس والتقطيب!! نشأت في قرية مسالمة كشقيقاتها الساحرات على ضفة الوقت؛ تتابع أخبار التاسعة بانتظام، وتتسلى بأم حديجان على الراديو حتى الحلقة الأخيرة من ليالي رمضان، وكان أهلها الطيبون يضحكون في الأعياد حتى القطرة الأخيرة من دموع الفرح والتصابي؛ لقد كان عصر الشاعرية المتكامل الذي ضيعه الشعراء. كل أعيادي كانت تبدأ بوجه جدتي صالحة عامر عواض رحمها الله، وبعد أن آخذ منها ما تيسر من القبلات والدعوات التي أفتقدها اليوم؛ تأوي القرية بكاملها إلى رأسها ويديها بالقبلات والأماني الطيبة، وهي بدورها لا تتوقف عن الدعاء لكل طابور المهنئين؛ مختتمة كل جملة ب ( علانا وعلاكم يعود ياعوالي ) ولمن لا يعرفون لهجة تهامة عسير فهي تعني: علينا وعليكم يعود العيد يا أولادي!! بعدها نأخذ التمام في منزل على أطراف القرية لأكبر القرويين عمراً وقدراً وأطيبهم معشراً عبدالله بن عبده بن عامر رحمه الله؛ ثم ننطلق جميعاً إلى كل بيت كي نأكل ما تيسر من الفتة والعصيدة، والحلويات، وفي كل بيت ثمة نكتة لا تزال تروى إلى اليوم، ومئات الحكايات والضحكات الصافية التي خرجت من أعماق القلوب الخضراء في الريف، والمغسولة بأمطار التصالح مع كل الدنيا.