إذ كان متلبساً بحالٍ من افتقار تجعله غنيّاً بربهِ، فيما بَدت ملامحُه عامرةً بذلٍّ ومسكنةٍ لا تُعرفُ -عادةً- إلا لقانتٍ مخبتٍ، يظلُّ قائماً في مصلاه يحذرُ الآخرة َويرجو رحمةَ ربه.. لعله إذن ممن نالَ حظَّه من إرث الكتابِ، بحيثُ ألفيناهُ سابقاً بالفرائض وليسَ هو بالمقتصِد، وآيةُ ذلك دنوهُ من الإمام حتى إنَّهُ ما يكون بينه وبين الإمام إلا ذراع من موضع سجودهِ، فيسبقُ المصلين ديانةً ليكونَ دوماً هو مَن يلِي الإمامَ مباشرةً، وإنَّهُ لَيأبَى أن يترك أدنى فرصةٍ لأيِّ أحدٍ -من المأمومين- في أن يسبِقوهُ تقرباً إلى الله تعالى بأحب ما افترض عليهم، وما من شيءٍ يمكن أن يفصلَ -صاحبنا- عن التقربِ إلى الله بالنوافلِ إلا الذكر المشروع دبر الصلاة المكتوبة.. وما هو إلا الذِّكر -المشروع- وإذ به قُبالتك قانتاً يتَرقَّى في: «معارج محابِّ الله تعالى» متنفلاً لا يفتر. وفي ستٍّ من رمضان يكونُ على موعدٍ -إيمانيٍّ- مع ختمته الأولى للقرآن المجيد، وهو حفيٌّ بها، حيثُ لا يفتأ يُظاهِرُ «ختمتَهُ» تلك باستيعابِ معاني كلمات الكتاب العزيز، وذلك من خلال كتاب: «ابن عزيز السجستاني»، ولئن قلتُ: إن من شدة احتفائه بهذا الكتاب الأثير يوشك أن يكون قد حفظهُ بِرمَّتِه.. فإني لم أقل غير الحق.. وبكلٍّ.. فما إن التقيتُهُ في جامع بريدة الكبير -جامع خادم الحرمين- حتى حانت منهُ إليَّ التفاتةٌ.. ثم أومأ بكفه البَض شطرَ الشيخ: «عبدالله القرعاوي»..، ومن قبلِ أن نهمَّ بالقيامِ إلى صلاةِ التراويح همس في أذني قائلاً: أنا لا أملُّ سماع القرآن مطلقاً حينما يتلوه عبدالله غضَّاً بصوته الخاشعِ الشَّجي.. وإذا ما أنصتُ إليه بكلِّ جوارحي أشعرُ حينها وكأني على باب الجنة واقفاً «اقشعر بدني إذ ذاك من قولِه.. وكادت روحي حينذاك أن تنخلع من مكانِها ما جعلني لم أنبس بشيءٍ.. ذلك أني أفقتُ لنفسي ووعيتُ بأنِّي في الدون من مقام تجلياته.. كلُّ الذي فعلته -فيما أذكرُ- أنْ قلتُ لنفسِي إبانها وبصوتٍ حَييٍّ خافت: «وي.. كأنَّ هذا الليبراليَّ من أولياءِ الله تعالى!!». وهممتُ لمَّا انفلتنا من صلاة التراويح أن أعظَهُ، لولا أن رأيتُ برهانَ: «تنسُّكه»، فاستحييتُ من نفسي. غير أنه شاءَ هو هذه المرَّة أن يودعني بقوله: (أعلم أنك أكثرُ مِنِّي علماً.. لكن هذا لا يمنعني مطلقاً من: أن أوصيكَ -متطفلاً- بأن تقضي ما بقي من ليلك دعاءً ومثلك يعرفُ مقالةَ سفيان الثوري: «الدعاء في هذه الليلة أحبُّ إليَّ من الصلاة».. ولا تنسني من صالح دعواتك..) أحكمَ من وضعِ عقاله على مستَقرِّ رأسه ثمَّ ما لبث أن ابتلعه الزحام.. بينما بقيتُ أردد مندهشاً: ليبرالي.. ويوصيني بأن أدعو له.. لا ويعرف سفيان الثوري بعد….!! وأيُّ شيءٍ قد بقيَ من بعدِ هذه: «الحكاية»؟! لا شيءَ سوى التوكيدِ على أن تعيدوا النظرَ معيَ فيما كُنَّا ننشغلُ به في سبيلِ تصنيفات: «مجتمعنا» طرائق قدداً.. ذلك أني أكاد أوقنُ جزماً -لا ريبة فيه- بأننا كلَّنا نوشك أن نكون: «نسخة واحدة» غير أن هذا بلحيةٍ والآخر دونها.!!