يتحسس التونسيون رقابهم بعد عملية الاغتيال الجبانة التي أودت بحياة القيادي في الجبهة الشعبية وزعيم التيار الناصري في تونس محمد البراهمي قبل أكثر من أسبوع، ليتذكروا الظروف التي اغتيل فيها قيادي آخر في الجبهة الشعبية بتونس الشهيد شكري بلعيد في شهر فبراير الماضي. وحسب المعلومات الأولية فإن المسدس الذي أطلق منه القتلة الرصاص على الاثنين هو نفسه، وبالتأكيد هو نفس الحقد الذي قاد إلى قتل تسعة من الجنود التونسيين على الحدود مع الجزائر. فبعد عامين ونصف العام مرت على الثورة التونسية، تبين لأغلب المواطنين هناك أن حزب النهضة لم يقد البلاد إلى بر الأمان، بقدر ما زاد من عملية الاحتقان نظرا للعجز الواضح في إدارة تونس بمنطق العصر وطبيعة المرحلة التي تمر بها من حيث متطلبات العقل التوافقي بدلا من العقل الإقصائي الغنائمي الذي ساد منذ الانتخابات التي جرت للمجلس التأسيسي نهاية أكتوبر 2011، وما تبعها من تشكيل حكومة بدت عاجزة عن تلبية المتطلبات الرئيسية في الحياة الحرة الكريمة للشعب التونسي، فزادت تكاليف المعيشة ومعها البطالة والفقر والأمن الذي افتقدته البلاد، خصوصا مع تزايد الحديث عن وجود معسكرات تدريب لتنظيم القاعدة مهمتها تنظيم وتدريب الشباب التونسي وإرساله إلى المحرقة الدموية في سوريا، فضلا عن القيام بعمليات في الداخل التونسي. في المعطيات، لم يتمكن المجلس التأسيسي من إنجاز المهمة التي أوكلت إليه وهي صياغة الدستور ووضع القوانين الانتخابية بعد قرابة سنتين من عمله، رغم تمتع الترويكا الحاكمة في المجلس بأغلبية بسيطة، حيث حصد حزب النهضة (إخوان مسلمين) 89 مقعدا، فيما حصد حزب الرئيس (المؤتمر من أجل الجمهورية) 29 مقعدا وبالتالي يكون للتحالف 118 مقعدا من أصل 217 إجمالي عدد أعضاء المجلس التأسيسي. صحيح أن الذين أدلوا بأصواتهم في انتخابات أكتوبر 2011 يشكلون أقل من نصف الناخبين (4.053 مليون ناخب من أصل 8.289 مليون ناخب)، وأن كثرة القوى والشخصيات التي حصدت مقاعد في المجلس كانت كفيلة بخلق حالة توافقية بين الترويكا والآخرين، بيد أن ما جرى خلال الفترة الماضية كشف عن قصر نظر الجهاز الحاكم في طريقة إدارته للدولة على الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ما وفر أرضية أكبر للمعارضة على مستوى الشارع وعلى مستوى المجلس التأسيسي، حيث فعلت عملية اغتيال البراهمي فعلتها وزادت منها عملية مقتل الجنود في منطقة قالت وزارة الدفاع التونسية إنها طهرتها من «الإرهابيين» الذين نصبوا كمينا لقوات النخبة وقتلوا منهم تسعة بينهم ثلاثة ذبحوا من الوريد إلى الوريد. تأزم الوضع قاد إلى تقديم 73 نائبا في المجلس التأسيسي استقالاتهم احتجاجا على تردي الأوضاع وعدم انصياع حزب النهضة لرغبة المعارضة في تشكيل حكومة إنقاذ وطني وحل المجلس التأسيسي. ووسط الجدل المحتدم بين الترويكا والمعارضة، برزت إرباكات جديدة لدى النهضة، تمثلت في إعلان رئيس الحكومة علي العريض أن حكومته مستمرة في أداء عملها رغم الانتقادات المتصاعدة من المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني خصوصا من الاتحاد التونسي للشغل، أكبر منظمة نقابية في تونس، الذي طالب بحكومة إنقاذ، ما فرض على النهضة (لحس) تصريح رئيس الحكومة ونسخه بتصريح آخر على لسان أحد قادة الحزب الحاكم معلنا موافقة النهضة على تشكيل «حكومة وحدة وطنية أو حكومة إنقاذ»، بينما تتمسك الجبهة الشعبية وحلفاؤها بحل المجلس التأسيسي أيضا، منطلقة من أن هذا المجلس كان يفترض فيه إنجاز مهامه في سنة واحدة، بينما يسير الآن ليختم عامه الثاني بعد ثلاثة أشهر. هذا الإرباك يشبه إلى حد كبير ما كان يحدث في مصر إبان حكومة الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي. فقد كانت سيناء مشرحة للجنود المصريين الذين يقتلون على أيدي جماعات متشددة ترفض الدولة حتى أيام مرسي بينما يقف الأخير مكتوف الأيدي وحكومته تتفرج على تمدد أذرع الجماعات المتشددة دون إجراءات وقائية جدية تحمي المجتمع من التطرف. وعلى المستوى المعيشي تعرضت حياة المصريين إلى هزة كبرى بعد الثورة التي أريد من انطلاقها العيش بكرامة وحرية وديمقراطية، لكن الحكومة الإخوانية في مصر لم تجد الطريق القويم لانتشال الشعب المصري من براثن الفقر والعوز والمرض. ربما كان المصريون والتونسيون سيسامحون حزبي الإخوان الحاكمين في البلدين لو أن أمنا حقيقيا قد أنجز، وسلما أهليا قد تحقق وبرامج لمكافحة الفقر قد وضعت، إلا أن المتتبع للشأنين المصري والتونسي يلاحظ عدم استقرار اجتماعي في البلدين بسبب السياسات الاقتصادية البعيدة كل البعد عن العدالة الاجتماعية، بل ذكرتنا سياسة الحزبين الشقيقين بأيام توزيع الفقر على شعوب الدول الاشتراكية إبان حقبة الحرب الباردة عندما كان الحكم الشمولي هو السائد في تلك البلدان. في مصر تشكلت حركة تمرد التي تمكنت من خلع الرئيس وتحالفت المعارضة مع الجيش لإسقاط الإخوان المسلمين. وفي تونس تشكلت فيها حركة تمرد مشابهة تسير على خطى شقيقتها الكبرى وتطالب بحل المجلس التأسيسي وتشكيل حكومة إنقاذ وطني وتغيير كل المسؤولين الذين تم تعيينهم على عجل في عهد حزب النهضة وتحديد انتخابات رئاسية وتشريعية في أجل لايتجاوز ستة أشهر. وحتى تنجز هذه المهمة فقد بدأت مدينة سيدي بوزيد (موطن العزيزي والبراهمي) بالعصيان المدني وطرد المحافظ، وتشكلت هيئات من منظمات المجتمع المدني والمعارضة لإدارة المدينة حتى نهاية حقبة النهضة. وقد فعلت مدن أخرى نفس الشيء مثل المهدية والكاف والقيروان، ما ينبئ بمخاض جديد في تونس قد يكون على خطى مصر مع فوارق الخصوصية.