في سياق الأبدية نحن نسكن الزمان والمكان يسكننا، كما يقول الفلاسفة، والإنسان لا يصير أطول قامة من أسلافه إلا إذا اعتنى بموروثهم، وخلّد وصاياهم، وحين تتفقد كتب التاريخ ومعاجم البلدان لن تجد إلا جبلاً واحداً يُعرفُ ب «جبل حِزْنَة» في محافظة بلجرشي وتلتف حوله قرى حزنة، وشعب الفقها، والمصنعة، والمدان. هو جبل كان وما زال وسيظل من أشهر وأبرز معالم منطقة الباحة الأثرية، والضاربة جذوره في عمق سهول تهامة الشامخة، قمتّه شاهدة على من مروا هنا، وعلى ما تركوه من بصمات إيجابية في البيئة الوعرة التضاريس، وما رسموه بحجارة مقدودة من صخوره من لوحات بنائية مدهشة ولافتة. وبالعودة إلى التاريخ البعيد نجد «جبل حزنة» حاضرا في شعر «يعلى الأحول الأزدي» ابن مسلم بن قيس بن يشكر، أشهر صعاليك العرب في العصر الأموي منذ القرن الثاني الهجري، هذا الشاعر الصعلوك اعتاد مع رفاقه على غزو الأثرياء ونهب أموالهم وتوزيعها على الفقراء والمعوزين والمعذّبين في الأرض. ويروي أستاذ اللسانيات في جامعة الباحة الدكتور جمعان بن عبدالكريم نقلاً عن كتب التاريخ أن خال الخليفة عبدالملك بن مروان، نافع بن علقمة بن محرث الكناني، كان والياً على مكة، وطالب عشيرة الأزديين بتسليم أبي يعلى، وألزمهم إحضاره، فلما اشتد عليهم في أمره طلبوه حتى وجدوه، فأتوه به فقيده وأودعه الحبس، فقال في محبسه قصيدة مطلعها: «أرقتُ لبرقٍ دونه شدوان/ يمانٍ ويهوى البرقُ كل يمانِ/ أويحكما يا واشيي أمّ معمرٍ/ بمن وإلى من جئتما تشيان/ بمن لو أراه عانياً لفديته/ ومن لو رآني عانياً لفداني». ومنها «ألا ليت لي من ماء (حزنة) شربة/ مبرّدة باتت على طهيان» (طهيان هي صخرة مجاورة لحزنة يمر فوقها الماء). فيما يرى الباحث والمؤرخ محمد ربيع أن الأسطورة تحضر بقوة عند ذكر جبل حزنة، موضحاً أن الأسطورة تُروى على أن سكان الساحل ضاقت بهم تهامة فسكنوا الأصدار وهي منتصف الجبال، وضاقت بهم الأصدار فاعتلوا ظهر السراة ومعهم نساؤهم وأطفالهم وحيواناتهم، في أيديهم الرماح، وعلى ظهورهم (الزعب) يأكلون الحب اليابس، يقضمونه تحت أضراسهم التي أتعبها قلق المصير، وأضاف تعاقبت الأيام والشهور والسنون، وتناسل الناس وتكاثروا حتى امتلأت بهم الشعاب والفجاج والأودية، وأصبحت المسحاة لا تفي بحاجتهم، وأمسى جهدهم لا ينهض بمطالبهم، فاحتاجوا إلى غوث من الله يشد أزرهم ويساعدهم فقال حكماؤهم: فلنجأر بشكوانا إلى الله، وبرزوا إلى جبالهم تلك ومعهم ذراريهم وحلالهم، وأرسلوا دعاءهم ثم سمعوا هاتفا يبشرهم بثورين شديدين ليسا كثيرانهم التي ألفوها، بل أقوى وأكبر، لا تمل ولا تكل، ولومة للحراثة ليست كالآلة التي ألفوها، لومة سنتها من الذهب، وعيانها من العاج، وعودها من الأبنوس. وأضاف أن الهاتف قال هي متروكة في هوران الشريف، مع كل ثور حارث، فخذوا الثورين والحارثين فما أن أتم الحارثان تركيب آلة الحراثة حتى شرعا في حراثة ثروق وما حولها في أقل من الساعة، فأخذوها إلى قَرَى قُرّا وما قبلها وما بعدها فأتمت ما بدأت في أقل وقت، وبقيت السانية تعمل بلا كلل ولا ملل، وبقيت اللومة جديدة مسنونة سالمة، ونشر بعض الحساد إشاعة حول لحم الثورين، قائلاً «من أكل منه ضمن لنفسه الخلود»، فصدق ضعاف العقول ذلك، وما فطنوا للخبث الذي انطوت عليه الشائعة، ولذلك دبروا مكيدة بليل، وحزموا رأيهم على خطف الثورين وذبحهما، ويذهب بحسب الأسطورة إلى أنهم بدأوا بقتل الحارثين، واقتادوا الثورين فصعدا بهما السراة، وفي غابة تغطيها أشجار العرعر، أخرجوا جنابيهم يقطر منها الشرّ، وألقوا بالثورين أرضا، ثم شرعوا في ذبحهما، لكن الثورين ما إن شعرا بحزّ الشّبَا في عنقيهما، حتى قاما على أرباعهما ثم هربا بسرعة، انطلق الثوران حتى وجدا مغارة في جبل فدخلاها، فأغلقت المغارة بابها عليهما من دون مطارديهم، وحاول الأشرار فتح نقب في عرض الجبل لاستعادة الثورين، لكن النصف الذي كانت فيه المغارة تحرّك فجأة، ثم انقارَ وانفصل عن جبل المخافة، ثم استدار حول نفسه وطار بالثورين بين السماء والأرض فاستبد الحزن الشديد بالنصف الثاني لجبل المخافة، وتألم كثيراً لانفصال نصفه عنه، فسمى الناس ذلك النصف الحزين (حزنة)، فيما ينفى أهالي حزنة هذه الأسطورة. ويرى محمد بن سعيد وغانم الغامدي ومنصور بن عبدالمجيد ويوسف الخثيمي أن الأساطير لا سند لها، وأن العلم ينفي الأسطورة كونه يعتمد النقوش والخطوط والرسوم وقراءة الآثار، مشيرين إلى جبل حزنة أن سمي بهذا الاسم لحزونة وصعوبة تضاريسه، مستبعدين مرويات عن سكنى الجن فيه وسقياهم الشعر لمن يريد أن يصبح شاعراً شرط أن يبيت معهم في الجبل ليلة كاملة.