نولد في أسر تمنحنا هويتها كما تمنحنا أسماءنا ونحن أطفال، نولد بين جماعات يصبحون أقرباءنا ومع الوقت تتولد محبتهم في قلوبنا ونشعر بولاء خاص لهم فتتشكل معهم رؤيتنا للحياة من نفس زواياهم الخاصة، وعندما نكبر قليلاً ندرك أن من بينهم الجيد والسيئ والصالح والطالح، ولكنهم يشتركون في منهج فكري واحد يحمل غالباً نفس الصورة الأخلاقية السائدة القائمة على تهميش كل ما هو إنساني وفرض كل ما هو دوغمائي، فمقابل الولاء الغريزي هناك دوماً ولاء عقلي ثقافي، أي ولاء لحقيقة متغيرة ونسبية قائمة على شعور بالأفضلية والسمو. لذا فإن المشكلة الأساسية لا تتعلق بقناعات فردية مغايرة، إنما المشكلة تقبع في اتخاذ المواقف بناءً على انتماءات ما قبل الدولة (كالمذهب والعرق والقبيلة)، أي أننا دائماً نحدد مواقفنا على حسب انتماءاتنا المذهبية أو الطائفية أو المناطقية، وليس بناءً على قيم إنسانية خالصة -كالعدل والمساواة- فتختل بهذا مكاييل الحق والعدالة طبقاً لخلفية الجاني والضحية وتضيع الحقيقة بينهما، لأن الحق غالباً ما ينفذ إلى طبقات أعمق لا تعرف عنها هذه المواقف الأحادية شيئاً، فيتعذر علينا أن نتخذ موقفاً موضوعياً منصفاً تجاه من يخالفنا، فالأغبية منا تميل إلى تصنيف الناس ووضعهم في خانات وحبسهم في سجون طائفية، ثم قذفهم بأحجار الشعارات والمصطلحات والشتائم أحياناً، وهذا مع الأسف ما يحدث الآن ونشاهده بشكل يومي في مواقع التواصل الاجتماعي كالتويتر والفيسبوك وغيرهما. ومما لاشك فيه أن مهمة المثقف هي البحث عن الحقيقة وإعلانها حتى ولو كانت التوجهات الاجتماعية تخالف تلك الحقيقة وترفضها، فإذا ارتأى المثقف أن الموقف الراهن يعبر عن قمع وكبت فإن عليه نقده نقداً علمياً واضحاً وصريحاً، وهذا الواجب يلازمه التنويه أيضاً بأنواع النفاق والتدليس لدى أولئك الذين يرفعون شعار الحرية لتدعيم النزعة الوحشية، فالعلم ليس فوق النقد لأن العلم متسامح مع نقد العقل، ولكنه ليس متسامحاً مع التعصب والظلم والتفرقة. ولهذا فإن من يحرص على الخير والصلاح ويعتقد أن من واجبه الدعوة إلى الله بين الناس، عليه أولاً أن يجتث هذه اللاأخلاقيات من جذورها بكل ما أوتي من جهد، بدلاً من أن يجتث جذور المذاهب الأخرى، ولكن إذا فعل عكس ذلك وكان قاسياً ومتعصباً تجاه أولئك الذين يخالفونه الرأي وكان منغمساً في مثل هذه الأخلاقيات التي لا تليق بأي مسلم، فإنه مهما تحدث عن الإسلام فإنه يدلل بأفعاله أنه يتحدث عن شيء آخر غير الإسلام الذي قال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). إن بناء المجتمع الراقي يبدأ ببناء الأفراد، والأفراد بدورهم يمثلون جماعات، والجماعات تمثل المجتمع، والمجتمع عبارة عن كيفية تفاعل هؤلاء الأفراد في بيئتهم وما ينتج عن هذا التفاعل من قيم وعادات واتجاهات، لذا فإن زوايا المجتمع لا تستقيم سوى عندما تبدأ من الإنسان ولا تتجاوز دائرته الإنسانية.