الانجذاب إلى الطائفية، والركون إلى دعاتها، خسران مبين، ونكران كبير، لتلك الجهود المبذولة في التقارب، والتعايش، ويعلم الجميع أنّ الناس يتدافعون إلى الشر بسرعة، ويمشون إلى الخير بتثاقل! مما تقرر لدى كثير من العقلاء، والواعين بحال الناس، إبعاد الآخرين عن التدخل في شؤونهم الأسرية، وقضاياهم المنزلية، والسعي بجد في الحيلولة دون ذلك؛ لأن تأريخ التدخل يكشف في معظم الحالات سوء النتيجة، فالمتدخل في معظم الحالات ينظر إلى القضية من خلال نافذة من استشاره، وطلب تدخّله، وهكذا تنتهي معظم الاستشارات والتدخلات إلى نتيجة، لم يكن المستشير يريد الوصول إليها، فقد دعّمت الاستشارة موقف المستشير الذي سبق إليه، واندفع تحت إلحاحه، فصار المتدخل جزءا من المشكلة، وترسا في دولاب ديمومتها، فجزم المستشير بالأمر الذي خالجه أولا، ووقر في صدره ما كان ظنا، فتحوّلت ظنون الرأي إلى يقين، ولو علِم المستشار أنّ صاحبه ما اندفع إليه إلا حين شعر بالحيرة والتردد، لربما أدرك أنّ دفعه في غير الطريق الذي جاء به إليه خير له، ولصاحبه. هذا ما يجري من المتدخل حين يكون المختلفان من مذهب واحد، وطائفة واحدة، فيزيد التدخل الشكوى، ويضخم المشكلة، وأشد بلاء منه حين يكون المختلفان من طائفتين مختلفتين، ومذهبين متغايرين، ويلجأ كل واحد منهما إلى طائفته حتى تُعينه على فهم ما يحدث، واستيعاب ما يجري، حينها لن ينظر المستشار في مصلحة المستشير، وإنما سيُبدي رأيه وفق مصلحته الطائفية، ورؤيته المذهبية، يجره بقوة إلى ذلك ما يراه، ويشاهده من تقمص المتحدثين لقميص الطائفية، وتوشّحهم بوِشاحها، فالأجواء المحيطة تحدد للعقلاء النتيجة التي ستؤول إليها الاستشارة، ويُفضي إليها التدخل، فالنتائج مرهونة دوما بمقدماتها. مَنْ يؤمن مِن الناس بكفّ الآخرين عن التدخل في قضاياه الأسرية سيكون أكثر إيمانا بكف الآخرين عن التدخل في شؤون الجماعات، وسيصبح أكثر حزما في هذه القضية، حين تكون تلك الجماعات مختلفات في الانتماء المذهبي والطائفي، ومن ذاق مرارة التدخل في القضايا ذات النطاق الضيق، سيدرك المرارة التي تنتظر المختلفين في القضايا ذات النطاق الواسع، فيُتوقع من أمثال هذا الإنسان أن يكون حجر عثرة في طريق كل مَنْ يدعو إلى التدخل في شؤون هذه الجماعات، دون صبغة مُحايدة، وصفة رسمية عالمية أو إقليمية. هذا ما يميل إليه الرأي في الأسر الآن، وتطمئن به النفس، والمجتمعات أحق به، وأجدر أن تنحاز إليه، فتبذل قصارى جهدها في شلّ أي حركة، تستدعي التدخل، وتُرحّب به، ولست اليوم أرى شيئا أعنف في الدعوة إلى التدخل في شؤون المجتمعات، وأسرع أثرا في تحقيق ذلك، من الطائفية، فهي الداء الدوي، والبركان الفتيّ، الذي ستتطاير شظاياه في جميع الاتجاهات، فحين يقوم جمل الطائفية الهائج، فلن نجد في أيدينا سبيلا لإمساكه، ولا رسناً قادرا على إيقافه، وتهدئة هديره! على مَن يتحدث عن الطائفية، ويتحذها في النظر، والتحليل، أن يُنصت لصوت العقل، الذي يقول له: إنّ حديثك عنها، واهتمامك بها، وحرصك عليها، سيُوقظ هذه النعرة في نفوس الناس، وستُصبح أنت بحديثك مشعلها، وموقد نارها، فمن يركب ظهر الطائفية، ويصبح الناس أمامه طوائف، وليسوا مواطنين، سيدفع كل جماعة، تنتمي إلى طائفة غير طائفته، إلى التفكير بالمنطق نفسه، والنظر إلى الأحداث من خلال رؤيته، وسيدفع الناس إلى الشعور بأنّ الأمان كل الأمان في الانحياز إلى الطائفة، واللجوء إلى ظلها، والاستمساك برايتها، وهكذا يقود هذا الإنسان الطائفي المذهبي مجتمعه إلى الفرقة والاختلاف، وهو الذي لا يملّ من الحديث النظري عن الوحدة، والائتلاف، واللحمة! إلا أن يكون حديثه مرادا به في حقيقة الأمر وحدة الطائفة، وائتلافها، وتماسك لُحمتها، فإنْ يكن هذا مراده، فقد ضيّع علينا الوقت في سماعه، والزمن في خزعبلاته، فانصرفنا عنه غير شاكرين له، ولا مقدرين لحديثه! تقضى أيها السادة الدول ذات التعددية المجتمعية في إذابة الانتماءات الدينية، والمذهبية، والعرقية، والإقليمية جزءا وافرا من وقتها؛ لأن تقدمها، وانتعاش شعبها، وتكافؤ الفرص فيها لا يضمنه إلا ذلك، فالناس والمجتمع يقودهم في إدارة الدول أكثر العناصر هيمنة عليهم، ومتى كان الدين، أوالمذهب، أوالطائفة، أوالإقليم هو القائد لحركة الناس في بناء الدولة، وتقدم المجتمع، فسيقع الظلم، ويفشو التظالم، وهما خير معول في الهدم؛ لأن الإنسان حينئذ يهدر قيمة الكفاءة، وهي رصيد الدولة في بناء مستقبلها، وتنمية شعوبها، وهما أيضا أقوى سبب في تحيز الناس، وارتمائهم في أحضان الانتماءات الضيقة، فمن لا يريد الوحدة والتعايش بين الناس والانفتاح على الآخرين فما عليه سوى أن يجعل المعيار الأول والأخير له في النظر إلى الشعب هو هذه المعايير المذكورة سلفا، فهو بهذا يهدم كل ما يسعى لبنائه، ويبذل وقته في إذابته، فتنطبق عليه تلك الصورة القرآنية المؤلمة، التي لا يحب أحد أن تكون من نصيبه:{ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا! ومما سرى في العقل، واشتهر، وذاع مقالهُ: كل فعل له رد فعل مساو له في القوة، ومخالف له في الاتجاه، وهي عبارة، تصدق تماما على إفشاء الطائفية اليوم، والتداعي إليها، فمن يُحَرّض الناس باسم الطائفية، ويجمع الناس حولها، سيفتح صنابير الماء على حقول الطائفية عند الآخرين، وسيرغمهم على العودة إليها، والاحتماء بها، ومن يظن خلاف ذلك يغفل عن فهم نفسه، ويَغبى عليه حالها، ولا حيلة للمرء في إنسان كهذا، فمثله مثل من يسنّ القوانين للآخرين، ويرى من حقه أن يتجاوزها، فلم تُخلق القوانين لمثله! في مجتمعنا، وفي مجتمعات إسلامية أخرى، آتت فكرة الحوار، والتعايش ثمارها، فأضحت كل طائفة تشتمل على أطياف مختلفة، وتوجهات متنوعة، ووجدنا في كل طائفة من يُدافع عن الأخرى، ويرى لمواقفها أسبابا، تجعله لا يحمل كل ما يجري على سوء النية، والقصد، وحين تنشأ الطائفية كما هو اليوم فهذا إيذان بخسران ثمار هذا الانفتاح على الآخرين، وإحراق لكل الجهود المبذولة فيه، وسعي لكفء الإناء المشترك، وستُجبر لغة العاطفة الناس إلى التخندق من جديد وراء طوائفهم، فتصبح سنوات الدعوة إلى الحوار والتعايش سرابا بقيعة، وكما يقال في المثل الفاشي اليوم على ألسنة الناس: كِنّكْ يا أبو هليل ما غزيت! ولن يفرح بهذه النتيجة إلا أولئك الذين كانوا يُحاربون الانفتاح، والتعايش مع الآخرين، ويرون الصراع هو الحل، والتدافع إليه هو الفيصل، ونعود بعد جهد في الانفتاح والتعايش والتقارب إلى الصوت الذي يُحارب هذا كله، ويقف في سبيله، ويراه غير قمين بالعناية، وجدير بها، فهل يغفل الناس عن هذا المآل للسباق الطائفي الأرعن، هل يخفى علينا أنّ المستفيد الأكبر من ذيوع الطائفية، وتمدد أذرع أخطبوطها هم أولئك الذين لا يرون للمخالف صفة المواطن، وإنما هو مبتدع، وخارج عن الجماعة، يلزم أطره على الحق، وقصره عليه؟ وهل يفوت علينا أننا ما قمنا بالحوار، ودعونا إلى التعايش إلا بعد أن آمنا بحقه في الاختلاف، وبصد النفس عن التدخل في اختياره لنفسه؟! الانجذاب إلى الطائفية، والركون إلى دعاتها، خسران مبين، ونكران كبير، لتلك الجهود المبذولة في التقارب، والتعايش، ويعلم الجميع أنّ الناس يتدافعون إلى الشر بسرعة، ويمشون إلى الخير بتثاقل! فكثير من الوقت تبذله في تخفيف النعرة الطائفية، سيقصم ظهره سويعات في تأجيجها، والدعوة إليها؛ لأنها هي الأصل الراسخ اليوم، والرابض تحت الرماد، فأي رياح من الحديث ستُبديها، وتعيد جمرها إلى الاحمرار من جديد، فهل يريد عاقدو ألوية الطائفية، وفاتلو أمراسِها أن تضيع سنوات الجهود سُدى، وتذهب أدراج الريح تكاليفها؟ من يتحدث عن الطائفية، ويُسوّغ التدخل في المجتمعات باسمها، يُراكم المشكلات، ويبعث المعضلات، ولهذا نموذج جلي في العراق اليوم، ومثل هذا الإنسان الذي يرتكز اهتمامه حول الطائفة سيتحدث قريبا عن انتماء مذهبي آخر حتى يسوّغ به تدخل الآخرين في بلده، وهذا ما يجعل تحرير الإنسان من فورة الانتماءات، وكَلَبها، ضرورة، تدعو إليها مصالح البلدان، ومطالب الشعوب في تقدمها، وإلا فستُهدر المصالح، وتضيع مطالب الشعوب على مقصلة الطائفية، التي ستجعل كل بلد إسلامي ساحة مباحة لكل الغرباء والأغيار! ولست أنسى أيها الكرام في ختام حديثي هذا أن أُذكر بكل ما ينبثق عن المذهبية والطائفية والإقليمية من مصطلحات ذات مفاهيم تصنيفية، توزع الناس حسب المذهب والطائفة والإقليم، وتسعى أن تُبعد الإنسان والجماعة عن هموم الوطن، وحقوق المواطن، وتضطره للانشغال بتلك الانتماءات، لا أنسى أنها جميعا تُشارك في خلخلة المجتمع، وفتح خروم واسعة في جداره، من خلالها يصبح المجتمع قابلا للتدخل، ومندفعا إليه، ومرحبا به، فهل تطوع أنفسنا بذلك، ونحن الذين نرفض أشد الرفض، ونأبى أعظم الإباء أن يتدخل الآخرون في قضايانا الأسرية؟!