من ذا الذي لا ينحاز لحقوق الإنسان؟ من ذا الذي لا يجد في نفسه ميلاً غريزياً لرفع الظلم عن المظلومين والمعاناة عن المقهورين؟ لا شك أن كل إنسان سوي عادل سيصطف مع دعاة الحقوق أينما كانوا، حتى يأخذوا حقوقهم. إلا أننا في عالمنا العربي لم نعرف ثقافة حقوق الإنسان إلا مؤخراً، فبالرغم أنه قد مضى على الإعلان عن الميثاق العالمي لحقوق الإنسان (1948)، ما يقارب ثلاثاً وستين سنة، إلا أن خضوع معظم دول العالم العربي لحكومات الانقلابات العسكرية في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي أرهقت العربي بشعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) تلك المعركة البائسة التي لم يحققوا فيها أدنى نجاح يذكر، كل هذا أدى لتأجيل وصول هذه القيم وهذه الأخلاق إلى الوعي الجمعي للمواطن العربي. كما أن تشويه ثقافة حقوق الإنسان من قبل أولئك الذين حصروا هذه الفلسفة الضخمة المتشعبة في جزئية أن المنادين بحقوق الإنسان لا يقرّون قطع يد السارق، ويساوون بين المرأة والرجل في الميراث، قد أدى بدوره إلى موقف سلبي منها. برغم أن العربي يحتاج أولاً للوعي العميق بالمفاهيم والمبادئ التي تسعى هذه الثقافة لغرسها في نفوس الناس، وكان من الممكن أن يكون موقف العربي هو قبول هذه الثقافة والتشبع بقيمها والاحتفاظ بحقه في رفض ما يتعارض مع الدين. فحفظ كرامة الإنسان الذي تدعو إليه هذه الفلسفة والبرامج الدقيقة المفصلة التي تسعى لتعزيز هذه القيم أثمن من أن نفرط فيها هكذا. كل هذه الأسباب كانت معاول هدمت قناعة الإنسان العربي في حقوق الإنسان، وجعلته طوال العقود الماضية بين التشكك والرفض لهذه الفلسفة. ثم جاءت الألفية الثالثة بناشطين سياسيين لا علاقة لهم بحقوق الإنسان -موفق الربيعي أنموذجاً- ممن لبسوا بدلة هذه الفلسفة وأرهقونا ضجيجاً وهم ينظّرون ويعلموننا أبجديات هذه الفلسفة، ثم انكشف الغبار، فإذا بنا أمام أعداء تحركهم العداوة، وطائفيين تحركهم الطائفة، إذ رأيناهم فيما بعد في حكومة نوري المالكي يطلقون أوامر الاغتيال -في المنطقة الخضراء- بناء على الخصومة الطائفية القديمة المتجددة. في البحرين تكرر هذا المشهد من أناس كانوا أصدقاء يدعون لحقوق الإنسان، مثقفين يحبون شعر محمود درويش وروايات فيودور دوستويفسكي التي هي من ألفها إلى يائها انحياز للضعفاء والفقراء. فلاسفة يعشقون ديكارت وسبينوزا وسارتر، ثم رأيناهم بعد كل هذا الحديث عن العلم والثقافة والمدنية وحقوق الإنسان يرمون أنفسهم رخيصة، ليكونوا مجرد أتباع لأيديولوجية إيران ضد الوطن الخليجي العربي الواحد! ناشطون وحقوقيون فيما يتعلق بالبحرين والقطيف برغم قلة عدد من سقط من الضحايا -نقول نحن رحمهم الله جميعاً- لكن لم يقولوا حرفاً واحداً لهذه اللحظة حول ما يحدث من مجازر رهيبة ودماء بريئة تسيل في شوارع سورية. ستة آلاف سوري قتلوا إلى هذه اللحظة، منهم أطفال أبرياء ونساء، إلا أنهم لا يستحقون بياناً واحداً من هؤلاء الحقوقيين! هناك استثناءات ممن عرفت هناك، ممن بقي نقياً شامخاً لتلك المبادئ التي عاش بها، كالشاعر قاسم حداد، الذي أعلن في ثورة 14 فبراير أنه مع خطاب المطالب والحقوق المدنية، لكنه أعلن انسحابه وإغلاق بيته رفضاً لتدخل عمائم إيران وعبثهم المتخلف الهمجي. ليس عيباً على الحقوقي أن يدافع عن حقوق طائفته إن رأى ظلماً قد وقع عليها، لكن العيب هو أن يسكت عندما يرى طائفته تمارس الظلم الأبلج والقتل الدموي في سورية والعراق فلا يتكلم ولا يرف له جفن، بل يكتفي بحك رأسه والانشغال بأي شيء آخر. أين ذهبت حقوق الإنسان؟ أين اختفت القراءة في كتب فلاسفة التنوير والعقل؟ أين ذهبت كتب هيثم مناع و(الإمعان في حقوق الإنسان)؟ لقد اختفى كل هذا الآن. وحق لكل إنسان -إن شاء- أن يعود إلى طائفته ما دام أن المسألة كلها من ألفها إلى يائها طائفية. برغم كل هذا، يجب ألا نفقد إيماننا بفلسفة الحقوق والسعي نحو حفظ كرامة الإنسان مهما كان، فكل هذه التعثرات التي تحدثت عنها هي جزء مما تحدث عنه «الفيلسوف حقاً – هيغل» من أن الوعي الجمعي لأي أمة يتحرك في سيرورة تتجه إلى صيرورة، حتى تعي نفسها ودورها في تاريخ البشرية. وهذه الصيرورة هي الكمال الذي لم نصل له بعد. لكن من الضروري أن نواصل المسير وألا تدعونا التعثرات للتوقف. فالتوقف هو الموت.