إما أن يمدحك الشاعر فيكون «كاذباً» وأنت مشارك له في كذبه «اللذيذ»؛ أو يهجوك «صادقاً» ليكون إنكارك «كاذبا»! أو يقع «كاذباً» في الهجاء فلا ينفعك «صدقك» حتى لو حلفت بأغلظ الأيمان وسقت ملايين شواهد البراءة!؛ وحتى إن كنت كريماً حسن المعشر صوّرك بخيلاً لئيماً «تمصّ» الزيتونة بلسانك ثم تعيدها للثلاجة لأكلها في اليوم التالي أو الشهر المقبل! وهذه صنعة الشاعر وذاك طبعه وتلك حياته بجن عبقرها وعفاريت عالمها! فعاطفته المشبوبة على الدوام مختلفة، والألم أقرب لقلبه من الناس، والأحلام تغدو أوسع في عالمه، وسخريته وهجاؤه نابعان -أغلب الأحيان- من معاناة طويلة ويأس مرير من الواقع الذي يحاول الهرب منه للخيال، نفس الخيال الذي لو تتبعناه لأدركنا أنه يعيش بقلب طفلٍ مغسولٍ بالشقاوة، سرعان ما يرضى وبذات السرعة يغضب! ولذا فقلوب الشعراء تجدها مشرعة على الحياة هكذا، دون أبواب أو حواجز ناهيك عن «الأقفال»! فهي قلوب مرهفة تعيش إحساساً مضاعفاً بالشيء، وهذا الإحساس العظيم لا بدّ له من «الخروج» وعلى الملأ كزلّات لسان! هذا عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود الفقيه الشاعر وأحد السبعة من فقهاء المدينة يشرح الأمر حين لقيه سعيد بن المسيب فقال له: أنت الفقيه الشاعر؟ فقال: لا بد للمصدور أن ينفث!! وهذا «المأمون» لم يمنعه سخطه على الشاعرٍ الخليع «الحسين بن الضحاك» – حين هجاه لقتله أخاه الأمين – من الإذن له بالدخول عليه، وبعد محاورة طويلة أمام «كافة المسؤولين» فنّد فيها المأمون أبيات الهجاء كافة، مختتماً بسؤال عن دوافع هجاء الشاعر له؟ فأجاب قائلاً: يا أمير المؤمنين، لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمة استلبتها بعد أن غمرتني، فإن عاقبت فبحقك وإن عفوت فبفضلك، فدمعت عينا المأمون وأمر له بجائزة. فهل للشعراء في عصرنا من «رحمة»؟!