تسللتُ كعادتي من (المنفى الجديد) منزلنا الصغير الذي تركنا به والدي وتشاركت العيش فيه مع والدتي، في نهاية كل شهر كان يقوم بزيارتنا بشكل قصير لتوصيل بعض احتياجاتنا وأخذ طلباتنا، ليجلس ساعات قليلة يتحدث مع والدتي بطريقة مُقتضبة، لم يحاول أبداً التقرب مني، بل كان دائما يشير باتجاهي لأبتعد إذا حاولت يوماً معانقته إلى أن اعتدت على ذلك، وبعد أن كبرت فهمت السبب. في كل صباح كنت أخرج حافية القدم إلى بقعتي المفضلة أمام الشاطئ الذي لا يبعد كثيرا عن المنزل، تنمو أمامها ببضعة أمتار ثلاث أشجار كثيفة الأوراق تلامس الأرض، جعلت منها مخبئي الخاص حيث أضع تحتها سلتين مليئتين بالأصداف، أربط إحداها بحبل وأعلقه بين الشجرتين، والثانية أجمع بها أكبر عدد من الأصداف يمكن أن تلقيه الأمواج على الشاطئ، وكثيرا ما كنت أشعر بسعادة حين أجد بين غلتي بعض النجوم التي تضل طريقها إلى اليابسة، لأستمتع طوال فترة بعد الظهيرة بترتيبها بشكل فني أمام الصخرة الصغيرة التي تجاور الأشجار، وبعد الانتهاء من عملي الممتع، آخذ مقعدي فوق الصخرة لأشاهد ما صنعت بإعجاب، ثم أكافئ نفسي بقراءة بضع صفحات من كتاب يرافقني لأعود إلى أمي قبل أن تغيب الشمس وأنا في منتهى السعادة والرضى. المكان دائماً خال، لا تعرفه أعين الفضوليين الذين اعتادوا أن يمروا ببيتنا في المدينة لكي يتفرجوا على أكبر أنف ممكن أن ينمو في وجه فتاة، عادةً لا يقترب الصيادون من بقعتي لأنهم ألفوا وجودي في هذا المكان منذ سنوات، ولم تكن بشاعة أنفي وحدها ما يُحزن أمي بل أيضاً الشامة الغريبة التي كانت تتدلى على الجانب الأيسر من فمي، وتعطيني شعورا أحياناً بأنني أقرب لإحدى عوائل الديك الرومي، كنت لا أتردد من السخرية من نفسي لكي اُضحك والدتي، التي كان يتملكها الشعور بالذنب لأنني لم أكن في مستوى جمال أخواتي اللاتي تزوجن في عمر مبكر، حيث كنت الأخت الثانية بين أربع أخوات يملكن جمالا أخاذا ورثن دقة تفاصيله من والديّ، حين كبرت قليلا وأدركت حقيقة حجم أنفي فهمت سبب عطف أمي المبالغ، كانت تغمرني بأحضانها المريحة وتمطرني بقبلاتها اللذيذة، مؤكدةً لي كل مرة أنني أجمل فتاة على الأرض، وصدقتها لأنني شعرت بصدق أحاسيسها في كل حضن تمنحني إياه، فلم أشعر بأي أحاسيس سلبية على الرغم مما سمعته مسبقاً من والدي، كنت أستمتع بوقتي كثيرا وما كان يؤرقني إلا الحزن الذي أصبح جزءا من ملامح أمي، فبعد أن أنهيت المدرسة وتركنا المدينة، علمتُ نفسي اللغة الإسبانية دون معلم، وتفننت في رسم أجمل اللوحات، مُتطلعة إلى حلم يراودني ويلح علي بإقامة معرض تشكيلي في إسبانيا أعرض فيه جميع لوحاتي، وذلك بعد أن أجري جراحة التجميل ( حلم أمي ) الذي رفضه وحرمه والدي بشدة، شعرت بحركة ورائي فنظرت بحذر من فوق كتفي الأيسر، لأرى كائنا جميلا يقوم بحركات إحماء رياضية، ويختلس النظر تجاهي وحين اقترب، اختبأت وراء الصخرة على الفور حيث أخفيت النصف المريع من معالم وجهي، ورفعت رأسي أطل فوجدته ينظر إلي مبتسماً قائلاً «أعتذر إن كنت قد أخفتك، لقد لفتَت نظري تلك الأصداف على الرمل فتتبعتها «، ثم صمت برهة ينظر… وقال «أتعلمين أنني لم أر عينين بهذا الجمال والاتساع من قبل»… ليهتز وتر داخلي لم أشعر به من قبل، فدسست كامل رأسي خلف الصخرة مرة أخرى وفوجئت بتسارع دقات قلبي دون أن أتحرك «يا إلهي كان وسيماً للغاية»، تجمعت الدموع في عينيّ من ضيق كاد يخنقني فكرهت أن يراني، وسحبت وشاحي من حول رقبتي، وتلثمت به بطريقة توحي بأني أشعر بالبرد ولم أظهر سوى عيني، وركضت باتجاه المنزل بطريقة خرقاء بكل ما أوتيت من سرعة، كان قاموسي الممتلئ بمفردات القبح التي أسمعها من الناس تتردد في رأسي، وكأنها تحذرني من الهرب من أول إنسان يرى جمال عينيّ، بينما أصر بقية الناس بالانشغال بالتحديق إلى أنفي الضخم وشامتي المدلاة، ما إن وصلت إلى المنزل حتى شعرت أن رئتي ستتمزق ولم أستطع التعبير عما أشعر به من حزن وسعادة، فدخلت إلى غرفتي واستسلمت للبكاء! في صباح أحد الأيام بعد أن أنهى والدي زيارته القصيرة المعتادة، أخذتني والدتي بسرية تامة إلى دولة عربية قريبة لتفاجئني بأنها رتبت موعدا لإجراء العملية بعد أن نجحت في جمع تكلفتها فغامرت من وراء والدي لتسعدني، بعد أن حدثتها عن مشاعري التي تفجرت منذ أن رأيت ذلك الشاب على الشاطئ… فتحت عيني بعد العملية لأجد والدتي تقف مبتسمة لأول مرة دون أن يبدو القلق على وجهها، لتكرر جملتها الشهيرة في سعادة ( ألم أقل إنك أجمل فتاة في هذه الدنيا)، بعد أسبوع رجعنا إلى المنزل ونظرة الانتصار تلازم والدتي وكأنها أصبحت الآن مستعدة لمواجهة والدي الذي حكم علي وعليها بالإقصاء بعيدا عن أعين وتندر الناس، كان يغالبني البكاء في كل مرة أنظر فيها إلى نفسي في المرآة، فلم أتصور أبدا أنني سأصبح بهذا الجمال! ذهبت كثيرا لنفس المكان مرات عديدة ولكن لا أثر له، وفي أحد الأيام الباردة، تحررت من حذائي ومعطفي وأخذت أدفن قدمي في التراب البارد، وظهر خياله أمامي، وكنت أنتظر هذه اللحظة فتعمدت ألا ألتفت إلا حين يقترب ليرى كم كنت جميلة، وبدا جواره خيال آخر، فحين اقترب كان ممسكاً بيد امراة تتهادى في مشيتها وتبدو عليها علامات الحمل في الشهور الأخيرة، لمحني فوق الصخرة فتوقف للحظة وابتسم وحين حاولتْ هي النظر باتجاهي، دفعت نفسي خلف الصخرة واختبأت مختلسة النظر إلى أن ابتعدا، عُدت إلى موقعي ورفعت وجهي للسماء وابتسمت، لا شيء يهم… فلم أعد قبيحة بعد الآن …!