ذلك الشارع الكبير أشعر أنه ما زال يرددني.... وتلك الأبواب الكبيرة المغلقة بسلاسل قديمة متآكلة تناديني! حيث أصبحت هشة كالبسكويت والكعك الذي يصنعه مخبز العم (عبدالقادر) الذي .... هو الآخر يشتكي من الغربة، فقد أصبحت الأرض خالية من المخبز ومن ساكنيها. ٭ ما زالت أشجار الورود المعمرة وأشجار الزينة العالية وهي تعانق السماء فقط هي الوحيدة التي تقبع في ذلك المكان تردد صدى من مرّ هنا يوماً وكأنها تصرّ على ترديد الوفاء وإثباته لكل الراحلين عنها بعبقها المنتشر هنا تأهباً لحضورهم، لتخبرهم عمّا أحدث الزمان بعدهم وتزهر لهم زهوراً أجمل من الماضي بكثير. ٭ هنا تبدو السماء كما هي جميلة واضحة صافية لأن الأرض تزهو بارتفاعها لتكشف عن وجه آخر للجمال في تلك المنطقة الجميلة في المدينة. - كنت طفلة في الخامسة من عمري بضفيرتين وأحياناً بشعر يتناثر بفوضوية على كتفي يميل إلى الحمرة كان لصغر حجمي جمال آخر يميزني وبوجه عابس صغير الملامح وغرة تنساب بعفوية باتجاه عيني لتظللهما من الشمس وأحياناً أتصنع ابداء الشعيرات لأغمض جفني اتقاء رؤية من لا أحب رؤيتهم. ٭ كان فهد ورفاقه يتدربون صباحاً كل يوم فقد تعودوا على رؤيتنا وتعودنا على رؤيتهم. (سهى .. وسامي) أخواي كانا يحبان لباسهم ويعشقان وضعية السلاح في أحزمتهم فكانا يلقيان كل صباح التحية عليهم بطريقتهم العسكرية، فهم ظرفاء ودودون. كنت أنا وأختي (أمل) معهما مرافقتين كالعادة كانا في المقدمة ونحن نسير دائماً خلفهما فهما اللذان يحملان الخبز ويأكلان الرغيف الأول وهما يتحدثان مع بعضهما أو مع من يصادفهما من أبناء الجيران وأنا (نهلا) و(أمل) في انتظار ما يجودان به من الخبز علينا، فهما يمتنان علينا بأخذنا معهم إلى المخبز. - كان (فهد) عندما يرانا جميعاً يخفض رأسه بحثاً عني وإذا وقعت عيناه عليّ بدأت ملامح وجهي تزداد عبوساً وجفوة بينما هو يزداد سعادة وأنس. ٭ يمسك بي عنوة وأنا أحاول الابتعاد عنه فيقذف بي عالياً إلى السماء.... يجعلني حيناً فوق الشجرة وحيناً آخر على كتفيه... يزداد ضحكاً وأنا أبكي.... يزداد سعادة.... وأنا أغضب.... يزداد انشراحاً وأنا عابسة. - انظر إلى أخواتي باستعطاف علهم يخلصوني من بين يديه ومن مزاحه الثقيل وفي نفسي كنت أردد: هذا مجنون كصويلح ابن الجيران فازداد خوفاً منه. استنجد (بسهى) و(سامي) أنادي بابا... ماما ولكن ما من يجيب ولكني أتفاجأ باخوتي يتضاحكون بل ويقهقهون فاشتاط غضباً فلا أجد طريقة للدفاع عن نفسي إلا الهجوم عليه فأتشبث به أكثر وأبدأ باللطم على وجهه.. كتفه.. صدره فيزداد ضحكاً وقهقة وسعادة وأنا أشعر بالعجز والخيبة، فهو جبل لا يتألم. أهدده بأخي الأكبر (جمال) قائلة: سأخبر (جمال) ليضربك ولكن ما يؤسفني ويشعرني باليأس والعجز أنه أكبر من جمال سناً وأضخم منه جسداً!! فأنا لا أشعر بالراحة والطمأنينة حتى أصل إلى المنزل حينئذ أعاتب اخوتي وأخبر أمي فيتهموني بالجنون!! (سهى) تقفز من مكانها غاضبة وبصوت عال تقول: من هذا الذي يجد من يحمله ويهتم به ويرفعه عالياً إلى السماء تدليلاً ويغضب!!! أنت محظوظة... لا بل مجنونة.. تظل أمي تنصت لحديثنا وهي تبتسم. - تمر الأيام وأنا أرفض الذهاب معهم رغم أن قلبي يتقطع ألماً فهم يخرجون أمامي في كل صباح إلى ذلك الشارع الكبير وأنا هنا وحيدة في انتظارهم حتى أبناء الجيران يخرجون هم أيضاً لشراء الخبز وفي طريقهم يلعبون وتدور بينهم أحاديث شيقة!! والسبب في عدم ذهابي؟ ذاك الرجل الذي يدعى (فهد) كرهته كنت أخشى أن أخبر أخي (جمال) لأنه كان يملك مسدساً بصفة دائمة ويحمله معه في كل مكان، فالسكوت أفضل!! وعندما يعود أخوتي من الخبز .. أفرح بمجيئهم ففي تلك الفترة القصيرة التي غابوا فيها عني لشراء الخبز افتقدتهم! أقبل عليهم ولا أملك إلا سؤالاً واحداً؟ هل جاء ذاك الرجل؟؟ فيجيبون: نعم وهو يسأل عنك وعن صحتك.. فازداد له كرها!! ٭ في ذلك اليوم استيقظت وأنا شجاعة حين قررت الذهاب معهم تحدياً لهم لتندرهم الدائم بي! وكانت المفاجأة السارة انني لم أره في هذا الصباح آه.. كنت سعيدة بغيابه مشينا.. ضحكنا.. لعبنا قليلاً ثم دخلنا المخبز وأنا أضع وجهي على زجاج العرض الداخلي لأري البسكويت بأنواعه... وانظر إلى جمال الكعك حين يتزين بالكريمة الملونة!! لتقع عيناي فجأة! على ذاك الحذاء الكبير السميك والبنطال العسكري... أركض وألوذ بأختي (سهى) هذا هو (فهد) يهرول بسرعة حتى يصل إلي فقد كان كالعادة لا يهمه ردة فعلي فهو ينادي نهلا ... نهلا.. اقتربي فقد جئت انظري إلي.. يتعالى صراخه.. ابكي فتخبئني (سهى) جيداً خلفها لتهدئ من روعي فما تلبث إلا قليلاً!! وتمسك بي وتدفعني إليه قائلة: نهلا سلمي عليه فقد جاء ليسأل عنك وبسرعة يحملني وهو متلهف فرح يرفعني على طاولة المخبز وهو يقول: نهلا انت قبيحة.. شعرك ليس جميل... لونه المحمر بشع!! - انظر إليه بكل غضب وحقد وكره!! كيف لهذه المشاعر أن تجتمع في عيني من خلال شخص واحد يدعى (فهد) وفي هذا الصباح بالذات والذي كنت أحسبه سعيداً بالنسبة لي. ٭ يمسك شعري.. يبعثره.. يطلق الشريط الحريري الذي يجمعه في الهواء وأنا اضرب يديه في كل حركة وهو يضحك، يستمر باللهو في شعري فأعض يديه بقوة فيغرق ضحكاً وكأن هناك شخص آخر معه يدغدغه حينئذ أجزم أنه مجنون آخر يعيش حولنا.. اخوتي باستغراب قلن: نهلا إنه كبير كف يديك عنه. أبكي فمعه لا حيلة لي إلا البكاء وانتظار الفرج! المتمثل بانزالي إلى الأرض. - ومع الأيام كان لا بد لي أن أتقبله على مضض لأني اكتشفت أن أفضل طريقة للتعامل معه نظراً لجنونه في اعتقادي هي تجاهله والتقطيب في وجهه عله ينثني عني ويتركني، ولكنه يزداد تعلقاً بي و... ازداد بغضاً له. ٭ مرت الأيام سريعة متتالية وفي يوم بارد كالعادة خرجت (سهى .. وأمل) بينما تأخرت (أنا وسامي) لأن سامي كعادته كان يصلح لابن الجيران دراجته، وفور انتهائه ذهبنا مسرعين للحاق بهم لشراء الخبز. ٭ وأمام البوابة الكبيرة كانت سيارتهم العسكرية المكشوفة قد احتشد بها جميع العسكريين وبما فيهم (ذاك الرجل) وهم يرتدون زيهم بكامله.. تبدو أشكالهم هذا اليوم في نظري جميلة! فالراحة تبدو على وجوههم وهم يجلسون بشكل منتظم كان (هو) يجلس على الجانب الأيمن والسيارة على أهبة الاستعداد للتحرك بينما أنا وسامي كنا مسرعين إلى المخبز لنرى الفران وهو يخرج لنا الخبز الحار حين تفوح رائحته ويمتزج ببرودة الصباح مودعاً يد الخباز والمخبز. وفي طريقنا المعتاد اقتربنا من السيارة بمسافة حينئذ قفز (فهد) كالنسر ليتلقفني من الأرض بكل رفق وحنان ولأول مرة بعد كل هذا الوقت أرى أن له عينين تختلفان عن ذين اللتين طالما نظرت إليهما بتخوف من قبل فهما تفيضان بالحنان والرحابة كنت انظر إليه بكل تركيز فلم انتبه اليوم إلى قبعته... أو مسدسه.. أو شاربيه أو إلى فظاظته بالحديث فهو مختلف كل الاختلاف هذا الصباح!! في هذه المرة لم أضربه.. ولم أبك ولم أتضجر ولم أطلب منه أن ينزلني في تلك اللحظة تمنيت فقط ألا أنزل!؟ لأني شعرت بقيمته وبأنه شيء غال لدي ونفيس!! ٭ جاء اخوتي والتفوا حولنا وإذا (بفهد) يخبرهم أنه لن يعود مرة أخرى لأن دورتهم انتهت وهذا هو اليوم الأخير لهم في هذه المدينة الرائعة التي أجمل ما فيها صباحها حين تتواجد (نهلا) هنا كنت أسمع هذا الكلام ولا أعي منه إلا انني جميلة وأنه لن يعود مرة أخرى. وأنا مازلت متشبثة به انزلني دون مقاومة... دون طلبي مني... دون صراخ قبلني ومضى وقد وقف زملاؤه ينادونه بشدة فقد حان الرحيل!! وقفت هكذا مذهولة وأنا أرى السيارة مسرعة بينما عيني تعلقت به وهو ينادي: نهلا .. نهلا وداعاً ملوحاً لي بيديه واخوتي يلوحون له بقوة وأنا عاجزة... افتقده وافتقد مزاحه الثقيل وافتقد صباحه وأنا أراه يودع أمامي. اختفت السيارة عن انظارنا حينئذ رفعت يدي ملوحة والدموع تبلل وجهي بصمت فهو لن يعود ولن أراه مرة أخرى. هنا في هذا اليوم وفي هذا الوقت وفي هذا المكان عرفت معنى الوداع حين علمني (هو) الوداع في تلك السن الصغيرة، درس كبير تعلمته وأعتقدت أنني استوعبته فحينما كبرت كنت مرتبطة بوداعه ورائحة الخبز وذاك الشارع وتلك البوابة. كبرت وأنا مازلت صغيرة على الوداع كما لو كنت طفلة.