تشغل أذهان المحللين السياسيين والاستراتيجيين طبيعة الأزمات التي ستواجه البشرية خلال الألفية الجديدة، فنجد الصحف والمجلات والدوريات مملوءة بالرؤى والتحليلات والاستشرافات للأزمات التي ستواجه العالم على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري، فلا تكاد تقلب صفحات الصحف إلا وتجد من يتحدث عن أزمة سياسية بين إسرائيل وإيران وإمكانية تطورها لنزاع عسكري، وآخر يتكلم عن الأزمة ما بين الكوريتين، وثالثاً يتحدث عن الأزمة بين الصين واليابان حول بعض الجزر، أو حتى أزمة بين الجارتين الهند وباكستان حول كشمير. كل هذا يهون أمام التهديد الذي يتربص للجنس البشري ألا وهو نقص المياه الصالحة للشرب أو الزراعة. تتمثل الأزمة من عدة أبعاد، فهناك دول سمح لها قدرها الجغرافي أن تكون متحكمة في منابع الأنهر، وبالتالي فإن توسع مشاريعها الزراعية وبناء السدود التي تحتجز المياه أنتج عديداً من النزاعات السياسية كحال الأزمة بين تركيا والعراق بعد أن بنت تركيا سد أتاتورك، أو بين إثيوبيا ومصر. والبعد الثاني يتمثل في الصعيد الكوني لكوكب الأرض، حيث الطلب العالمي المتزايد على المياه نتيجة زيادة عدد السكان على الكوكب، شكّل ضغطاً على عرض المياه العذبة المحدود أصلاً، الذي يشكل فقط 2.5% من مجموع المياه الموجودة على سطح الكرة الأرضية. ويتمثل البعد الثالث في أزمة نضوب المياه، التي لن تعد تهدد الحضارة الإنسانية كما هو الحال عندما ينضب النفط، بل هي تهديد للجنس البشري كوجود بيولوجي وحياتي على هذه الأرض. فالمياه مقوم رئيس للوجود البيولوجي لجميع الكائنات، بل إن جميع الحضارات القديمة التي سادت بعد العصر الزراعي كانت حضارات نهرية، كحضارة بابل وسومر وحضارة بلاد وادي النيل. لنتكلم الآن بلغة الأرقام والمقاييس والتقارير المعتمدة. فقد أطلقت الباحثة والناشطة الهندية فاندانا شيفا صرختها التحذيرية المدوية من خلال كتابها «حروب المياه»، الذي تضمن سرد عديد من الإحصائيات والأرقام غير المبشرة بالنسبة لهذا المورد الجوهري. فقد تم تحديث التوقعات بناء على المعطيات الجديدة لتصبح أكثر سوداوية من التوقعات القديمة، فمن المتوقع في عام 2025 أن تكون هناك 56 دولة حول العالم تعاني ندرة المياه، وكان الرقم المتوقع في 1998 حوالي 28 دولة، وسوف يكون هناك 817 مليون نسمة يعانون ندرة المياه في السنة نفسها، بينما كان الرقم المتوقع 131 مليوناً في سنة 1990، والمحصلة النهائية انخفاض النصيب العالمي للفرد من المياه بمعدل الثلث منذ عام 1970. ومن المتعارف عليه عالمياً كمعيار لقياس النقص في المياه، أنه عندما يقل نصيب الفرد عن 1000 متر مكعب في السنة في دولة ما، تعرف الدولة أنها تعاني من نقص حاد في المياه، وإذا قلّ نصيب الفرد عن 500 متر مكعب سنوياً فإن حياة الأفراد تكون مهددة بسبب العطش والجفاف كما هو حاصل في بعض دول إفريقيا التي تعاني المجاعات وموجات الجفاف بين فترة وأخرى. من أهم أسباب قلة المصادر المائية في العالم هو نمو الاستهلاك المصاحب لتزايد السكان المستمر، وأوضحت الباحثة والناشطة الهندية أن التكنولوجيا الحديثة كانت سبباً رئيساً في استنزاف الموارد المائية بوتيرة أسرع من وتيرة تجمُّعها، فالحفارات الضخمة اقتحمت مصادر المياه الجوفية واستخدمت كميات كبيرة منها في زراعة نباتات تحتاج لكميات ضخمة كالقصب والأرز في الهند دون اعتبار لمحدودية تلك المياه، مما أسفر عن انتشار التصحر والجفاف في بقاع كثيرة من العالم. إن الزيادة السكانية لا تضغط على كمية المياه العذبة الصالحة للشرب فحسب، بل تؤدي إلى استنزاف المياه المطلوبة لزراعة المحاصيل لسد رمق الأفواه السكانية الجديدة المحتاجة للغذاء، وفي دراسة أصدرتها مجموعة تتألف من أربعين زعيماً سابقاً يشارك فيها الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، ورئيس جنوب إفريقيا السابق نيلسون مانديلا، تبين أن حوالي 3800 كيلومتر مكعب من المياه العذبة تؤخذ من الأنهار والبحيرات سنوياً. وقالت إنه «مع مليار إنسان إضافي سيتوجب إطعامهم بحلول 2025 فإن الزراعة العالمية وحدها ستحتاج إلى 1000 كيلومتر مكعب إضافي من المياه سنوياً». وعدد سكان العالم الآن يزيد قليلاً على سبعة مليارات نسمة. وقالت الدراسة التي يدعمها أيضاً معهد المياه والبيئة والصحة في الجامعة التابعة للأمم المتحدة ومؤسسة جوردون الكندية، إن الزيادة تساوي تدفق عشرين نهراً في نفس حجم تدفق نهر النيل سنوياً. وأوصت تلك الدراسة بأن يكون لمجلس الأمن والأمم المتحدة دور للحد من تفاقم تلك الأزمة. هذا على الصعيد العالمي، فكيف هو وقع تلك الأزمة خليجياً، التي تعاني من شدة الحر أغلب أيام السنة؟ مما يتعين على ساكني تلك الدول استهلاك المياه بصورة أكبر لأغراض الشرب وإرواء العطش الناتج عن الحر أو لغرض الاستحمام المتكرر الذي قد يصل لمرتين يومياً، مما يؤدي إلى مزيد من الاستنزاف للموارد المائية القليلة أصلاً في دول الخليج العربي، فلا وجود لأنهار فضلاً عن ندرة الأمطار. وبالتالي فإن تلك الدول تعمد إلى استغلال مواردها النفطية للاستثمار في مشاريع تحلية المياه المالحة المكلفة نسبياً، مما يثقل كاهل الخزينة المرتبطة بتقلبات أسعار النفط، فارتباط إمدادات المياه بالنفط يعدّ سياسة محفوفة بالمخاطر. مع الأخذ في الاعتبار أن عدد سكان دول الخليج قد تضاعف خمس مرات خلال العقود الأربعة الماضية، مما يزيد من فداحة الأزمة، فمهما يكن من أهمية النفط الاقتصادية فهو لن يروي عطش سكان الخليج مستقبلاً.