يمسح الشاطئ بعينيه عابراً يبحث عن منفذ يمكنه من تجليات الغروب، لحظات كهذه تموج سريعاً، يكاد يتوقف الطريق من ازدحام السير، يتراكض أطفال بشغف على الجسر الممتد عبر مسافة داخل البحر، تتحد العوائل المفترشة كأنها أسرة واحدة، يمضي قليلاً ويتوقف. على جيد الشاطئ يتراص الحصى كعقدٍ أسودْ، يتشكل منحنيات كلون ناتئ عن لوحة فنية، الرصيف يبدو مبللاً من بلورات الماء الهاربة، ورفيف النخيل يتناغى مع الهبوب المتسرب جنوباً، فيما كانت الأمواج تنازع قعر البحر فكاكاً نحو اليابسة. – البحر جميل.. – فاتن وغادر.. تناهت إليه جملة صديقه، وسرت شجناً في الأوردة، وقد غيبه الماء ذات رحلة رمق. قفزت إلى حنجرته مرارة الفقد، والشمس تبث قانئ الدمع، تَلون الشفق بحمرة الوداع، لاح له طيف صديقه يردد بين السحاب المتناثر في السماء الخاوية من أجنحة الطيور. – الأمل.. هو الحياة. أرخى أهدابه على قطرات دافقة وحارة، ونبضه يجتر مأساة الذكرى، شعُر أن نسائم البحر الباردة تخرق جسده النحيل، وتسري في أطرافه رعشة خانقة، ويرحل الأفق إلى وهاد الظلام، لم يقو على المكوث أكثر. تتفاقم اللحظات المقيتة عند أزقة الحي المتعرجة، سيارات قديمة تضخ الدخان في فضاءات الليل، يحتشد صبية حفاة على عربات البائعين، يعودون بأكياس ملونة مبتهجين، وطفل يشبهه، ينحشر في ركن قصي يداه متربة، ويبكي بحرقة على فقدان نقوده.في غرفته تقسو عليه الساعات، وتتضافر جيوش الوجع كلما أوغل المساء في السكون، يتصاعد السُهاد إلى مقلتيه، ويركنه إلى مساحات ضيقة ومليئة بخلود الذاكرة، حين أقفلت عليه يد الأيام بصيص النشوى، وبات وحيداً يواجه الضمور، بسط له يديه المخضبة بالوفاء، ومد له أعناق تساوم الريح والسحاب. لم يعد قادراً على ابتلاع مزيد من حرائق الرحيل، تلوى على فراشه، وأسند ظهره على الجدار المواجه للشرفة المطلة على بيوت أنهكها مضي الزمن فتحولت إلى قامات قصيرة أمام شواهق البنية، النجوم بدت باهتة من سطوة الليل، أطلق العنان لوحشة الظلام، شعر بتصاعد نبضه، وغصة ترتدم في حنجرته الصامتة، يكاد يختنق، يلملم سريعاً ما تيسر في الحقيبة، نظرة أخيرة على وحشة الغرفة، يفتح الباب ويتراجع من أنفاس الصبح الجديد وهي تزيح الوهن عن وجه الحياة..!