كِيَانُ مُهَمَّشٌ لهُ مِن الخضوعِ أميال، ويحمل مِنَّ التبعيةِ أطناناً، وإذا فرح ببضعِ دقائقٍ مِنَّ الراحةِ عَصَفت به أحلامُ اليقظة، وتأنق، واتجه لأجمل رُكن، أو شارع، أو عربة، ليلتقط لنفسهِ صورة حولها، يُرسلها لذويه. أعماله رغم أهميتها غير مُقدرة، لأنه غالباً ما يُكلف بأوسعِ الأعمالِ مجالاً، وبأكثرها جُهداً، وأدناها منزِلةٍ. تَجِدهُ حول المَفارِق يُحرك لجنديِ المرور علامات التحذير المؤقتة، ويربط الأشرطة بين الأعمدةِ، ويحمِلُ الأقماع والحواجز البلاستيكية، ويتبسم لسياطِ أشعة الشمس الحارقةِ المنهكة، ويُلمع السيارات، ويغسل الأحواش والحمامات، ويصنع المشروبات، ويُحضر الطلبات، ويرد على كُل هتاف أو رنين ببسمةٍ تخشى اللوم والتأنيب. تَجِدهُ في المحلاتِ التجارية، يعتِلُ الأحمال، ويقوم بتوصيلِ طلبات الزبائن، ويُرتب الرفوف، ويرُص البضائع، ويغسل، وينظف، ويبتسم في وجهِ الزبون حتى لا يُعنفهُ مُدير المحل. تَجِدهُ في العملِ الحكومي، يحضرُ قبل الشروقِ، يُرتب الأختام، والأوراق السرية، وينظفُ مكتب المُدير، ويحمل حقيبته، ويُغلق خزنته، ويصنع قهوته، ويبتسم وهو يجري له جلسة مساجٍ سريعة، قبل الاجتماع المرتقب. تَجِدهُ في الأزقةِ يصارع حرارة الشمس، ويقشع الملتصق بنار إسفلتها، ويُلَمْلَم القاذورات، ويُلمع الأرصفة، وينظرُ للعربات من حولهِ متبسماً فلعل أحدهم أن يرمي له عبوة ماء باردة. تَجِدهُ في المسجدِ يكنُس، ويمسح، ويرتب، وينظف دورات المياه، ويؤذن بدلاً عن المؤذنِ، ويصلي بدلاً عن الإمامِ، ويبتسم لمن يدُس في جيبهِ حسنة. تَجِدهُ في مسارات المجاري بأنفٍ ملتهب، يعاني من رَذَالَةِ الجرذان، والتصاق الأقذار بملابسه، ويبتسم، لأنه سيستحم غداً بيومِ إجازته. تَجِدهُ في المصنعِ يحمل بيديه المواد الحادة، والحارقة، والمزيتة، ويزحزح المعدات الثقيلة، ويبتسم وهو يقوم بأخطر الأعمال، التي لم يتدرب عليها، نيابة عن المهندسِ، والفني. تَجِدهُ في المطعمِ يُجلي الأواني، ويرتب الطاولات، ويمسح الأرضيات، ويقطع اللحوم، وينظف المواقد بأصابع دامية، ووجه تصلاهُ حرارة الأفران، ويبتسم عندما يكافئونه ببقايا وجبة. تَجِدهُ في كل مكانٍ سلطوي يُشيع فيه الظُلم المستتر، وفي كل زاوية ذلٍ لا تشرق فيها شمس الرحمة. إنهم فئة من العمالةِ الأجنبية البسيطة، متدنية التعليم، والتي نلمحها، فكأنها أشباح شفافة جوفاء، ننكر أنها تحمل كثيراً من المشاعرِ، والهمومِ، ومن ضيمِ الغربةِ، ولواعج الحنينِ للأهلِ والوطنِ، ونكلفها بالدنيء من الأعمالِ، ويستغلها بعض منا استغلالاً جائراً أعمى. فئة قد لا تنالُ أجرها الضئيل، وقد يصِلها مُجزئاً، مُتأخراً، أو ملطخاً بالمِنة. فئة تسكنُ في جُحُورٍ لا تصلُح للعيش الإنساني. فئة يحسبها بعضهم بلا مشاعر، ولا إدراك. فئة تُعيدنا لعهدِ السَّيِّدُ والعَبْدُ، حيث تُمتهنُ إنسانيتهُم، ويُطلبُ مِنهم المُستحيل، ويُسرقُ منهم عَزِيزُ المنام، ويزجرون في كلِ ذهابِ وجيئة. فئة إن تبسمت تعجبناً من قدرتهم على الابتسامِ، وإن دَمَعَت أعينهم وصمناهم بالاحتيال، والغش. حقِيقَة لقد تجبرنا، وتناسينا أن مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ.