سطر تاريخنا الإسلامي بمداد العز والفخار قَصصاً مدهشاً ومؤثراً عن التفاعل الوجداني والحمية الإسلامية في أمتنا الإسلامية، إنها قصص حق، وليست من نسج الخيال، وهى مستوحاة من آيات وأحاديث، وأخلاق وشيم، ونخوة وكرامة، وشجاعة وتضحية، ونجدة ونصرة، ورجال ومواقف. قصص وحكايات حفظناها ورددناها، حتى حسبنا أن صيحاتها الشريفة قد نقشت في سواد العيون وشغاف القلوب وأعماق المهج. علمنا إياها ربنا في وصف لا ند له أو مثيل، وصف ساحر آسر يأخذ بعقلك وقلبك وروحك، ويجذبك، ويشدك، وينقلك إلى عمق الحدث، إلى ميدان الشهادة، وشهادة الميدان، حيث الجواب الحاسم الصريح بلا خوف ولا تردد أو تسويف: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا)، أسود ضوار تطير على صهوات الخيل، يخاف منها الخوف، نداؤها لبيك اللهم لبيك، وفي مسمعها استغاثة وامعتصماه، وحداؤها: «أقسمت يا نفسي لتنزلنه، لتنزلن أو لتكرهنه، يا نفس ألا تقتلي تموتي،.. ما لي أراك تكرهين الجنة، فإما حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدا». إنها صورة لبطل عملاق مهيب اسمه الحمية الإسلامية، وفي ظل هذا البطل عاشت أمة الإسلام ردحاً من الزمن عزيزة الجانب، مهيبة، يحسب لها ألف حساب، قولها فعل، وجوابها ما سوف تراه، هو بطل واحد، وإن تعددت أسماؤه في تاريخنا، هو أبو بكر وعمر وخالد وحمزة وعثمان وعلي، وحسن وحسين، وهارون والعز بن عبدالسلام، وموسى وطارق وعبدالرحمن، وصلاح الدين وسيف الدين، ونور الدين وابن تاشفين، ومحمد الفاتح وعبدالحميد، وعمر المختار…….، ولكنه في أصله وجوهره واحد، لم يتغير ولم يتبدل، إنه عملاق الحمية الإسلامية. إن أمتنا لتشتاق لهذا البطل، والكل يستغرب غيبته الطويلة، ويسأل: أين عملاق الحمية الإسلامية؟ ما أخباره؟ لماذا غاب؟ أسئلة عديدة تتأرجح بين اليأس والأمل، فسائل يقول: هل مات؟ أم هو مريض هزيل؟ وآخر يقول مستبشراً: لا تقلقوا، فسوف يعود، ويرد عليه الأول: كيف يعود؟ فيجيبه قائلًا: سيعود…سيعود، ولكن بشرط، لن يعود حتى تعرف الأمة -جمعاء- أسباب غيبته وضعفه المزعوم وموته الموهوم، أسباب من داخلنا، وأخرى من خارجنا، وإصلاح النفس وتغييرها أصعب وأشد، ولوم العدو -كان ولم يزل- مخرجاً سهلاً للكسالى والمتنصلين، فهو لا يكلف صاحبه عملاً يذكر، ولكن سنة الله في خلقه جارية لا تتبدل ولا تتحول: لا بد من تغيير وإصلاح ما بالنفس -أولاً- لكي يصلح الحال حولنا. يا من تحملون هذا الهم، تعالوا، وهلموا لنبحث سوياً عن إجابة لهذا السؤال المهم: أين ذهب ولمَ غاب عملاق الحمية الإسلامية؟ غاب عملاق الحمية الإسلامية حينما نسينا وتناسينا: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). غاب حينما أخذنا بأذناب البقر. غاب عندما أصابنا الوهن فأحببنا الدنيا وكرهنا الموت. غاب عندما لم نفهم (وَالْآخِرَة خير وَأبقى)، (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). غاب لأننا لم نعمل بأمر إلهي: (وَأَعِدُّوا). غاب حين واددنا ووالينا من يحادّ الله ورسوله وعادينا أولياءه. غاب لأننا لم نفقه درساً إلهياً معصوماً: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)، (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا..) غاب عملاق الحمية الإسلامية حينما أضعفنا اقتصاد دولنا بأيدينا، فأصبحنا عالة وأسرى في سجون صندوق النقد الدولي المسيس. غاب هذا البطل حينما تفننا في البحث عن أسباب الفرقة، وإذكاء نارها، حتى أتقنا فقه الاختلاف فيما بيننا. غاب هذا العملاق حينما أحسسنا بالعار والخجل من صلاتنا وعفتنا وحجابنا وأسرنا المتماسكة، فيممنا غربا باحثين عن مدنية زائفة، وتقدم مزعوم، وتحرر شيطاني من كل فضيلة. غاب هذا العملاق حين أصبح الخوف والتخويف، والوهن والتوهين جزءاً رئيسياً من تكوين بعض ورثة الأنبياء وغالب الأمة. غاب عملاق الحمية الإسلامية حينما شوهت وتشوهت بعض فصول السياسة الشرعية، وأعان عليه بعض أدعياء الفقه السياسي الانتقائي المبتسر، فجعل أدعياء القلة المجهلة همهم الأوحد في ولاية فقيه معصوم، وعاب فعلهم محب الدرب القويم، وشنع عليهم، ولكنه -ويا للأسف- سار على نهجهم وإن لم يسمه بذات الاسم، فالكل معصوم على كل حال، واستمر جرم تبرير سوء الحال والدعوة لقبوله، وقتل الأمل، والتخويف من مآل كل من رام إصلاح الحال، وتوريث الذل واليأس والوهن لأمة تفتتح صلاتها خمس مرات في اليوم والليلة بكلمة: الله أكبر، فيا ليت شعري ماذا تعني هذه الكلمة؟ هذه محاولات أولية ومحدودة للبحث عن إجابة السؤال: أين ذهب عملاق الحمية الإسلامية؟ إن القراء -بشتى مستوياتهم- لمدعوون للبحث عن الإجابة، والزيادة على ما سبق طرحه، كل حسب استطاعته وجهده، وكل منا على ثغرة من الثغور. ليس الغرض من هذا البحث مزيداً من التنظير الجامد الراكد، والغرق في بعض ما اعتدنا من الترف الفكري العقيم، إنما الغرض هو العلم للعمل الفوري، ومصارحة الذات ومكاشفتها، فنحن الملومون لغيبة عملاق الحمية الإسلامية عن واقعنا، ولا يكفى إقرارنا بالذنب، ولا ينفع التلاوم، ولا بد من العمل الفردي والجماعي عملاً ممنهجاً ومتناسقاً ومنظماً ودؤوباً، يهدف إلى إحياء عملاق الحمية الإسلامية في نفوسنا وواقعنا. والله إن الأمر جلل، والمهمة عظيمة، ولها رجالها، والانشغال بما هو دونها غبن للأمة، ويصدق فيها قول ذلك الشاعر: قد هيؤوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل إن خير ما يختم به المقال الصلاة على المصطفى والصحب والآل، فهم من علمنا أن الحمية الإسلامية ليست مجرد شعار أو مقال، إنما هي هم كبير كبير كبير، يولد همة وعزيمة عظيمة تدفعان صاحبها للعمل والتضحية والبذل والفداء، وصاحب هذا الهم والهمة والعزيمة ليس غريباً أو بعيداً عنا، فهو أنا وأنت، وهو وهي، وهم وهن، وكلنا -إذا فهمنا وعملنا- هذا البطل العملاق، فاستعن بالله، وشمر عن ساعد الجد، فقد دقت ساعة العمل للإسلام، ولا تحقرن من العمل والمعروف شيئاً، ولا يضيع الله أجر من أحسن عملاً.