الميزانية: ماذا للمواطن من الجيل الحاضر من نصيب فيها؟ والميزانية: ماذا للمواطن من الأجيال المقبلة من نصيب فيها؟ سؤالان جوهريان وأساسيان لمن يريد أن يعطي رأياً في الميزانية الجديدة للعام المالي 1433/1434 الموافق للعام الميلادي 2012. الإجابة الرسمية والإعلامية عن السؤال الأول هي أن كل ما في الميزانية هو للمواطن. هذه الإجابة وإن كانت صحيحة في لغة التعميم، إلا أنها قد لا تكون صحيحة في لغة التفصيل. «فالجني» كما يقول المثل العامي «في التفاصيل». وفي نطاق التفصيل وتحت بابه لدي بعض الأسئلة: • الميزانية وعاء مالي تجمع فيه إيرادات الدولة التي يأتي ما يزيد على %85 منها من استنزاف الثروة النفطية. المواطن تصل إليه مصروفات الميزانية من خلال قنوات طويلة تمتد من وزارة المالية إلى كل الوزارات والمصالح الحكومية، وفي كل منعرج ومنحنى ومحطة يُقضم من خيراتها شيءٌ هنا وشيءٌ هناك، بفعل البيروقراطية وسوء الإدارة أحياناً، وبفعل الفساد المالي والإداري أحياناً، وبهما معاً أحياناً أخرى، ثم يصل إلى المواطن ما بقي منها. هل هناك في هذه الميزانية من جديد فيما يتعلق بكفاءة وأمانة ودقة إجراءات صرف الميزانية، أم أن الأمور باقية على حالها؟ • كيف يتم تخصيص وتوزيع مصروفات الميزانية على الأفراد والقطاعات والمناطق؟ هل هناك معايير عادلة وخطط إستراتيجية وسياسات واقعية يتم بموجبها توزيع خيرات الميزانية على العباد والبلاد؟ أم أن الأمور لا تزال باقية على حالها؟ • يتردد في الصحافة وعلى لسان رجال الدولة والمال والأعمال والمحللين الإشادة بحجم الميزانية، فمن قائل إنها فلكية ومن قائل إنها الأكبر منذ كانت هناك ميزانية. والسؤال هنا: هل هذه الإيرادات الفلكية هي من فعل إنتاجنا الوطني وصنع أيدينا حتى نفاخر بحجمها وأرقامها؟ وفي انتظار إجابة المسؤول عن هذه الأسئلة القليلة التي لا يسمح المكان بأكثر منها، وأشك في أن تُرد، دعوني أتبرع بالإجابة عن هذه الأسئلة: • بالنسبة للمنعطفات والمسالك والطرقات التي تمر بها الميزانية قبل أن تصل إلى المواطن أقول إن البيروقراطية المالية ونظام المشتريات الحكومية وغيرها، لم تشهد تطويراً بنيوياً حقيقياً منذ زمن طويل. الفساد المالي والإداري استفاد من طرق وممرات الصرف الحكومي المتعرجة والملتوية، فأقام شباكه في زواياها وبين أركانها وأخذ نصيبه منها بقدر ما استطاع. • بالنسبة للأوليات والخطط والسياسات المتعلقة بتخصيص إيرادات الميزانية على أهل الحاجة والاستحقاق بشكل يضمن تحقيق الكفاءة والعدالة في التوزيع بين الأفراد والقطاعات والمناطق، فإني أشك في ذلك لأن جوهر وآلية إعداد الميزانية لا يزال على عهده السابق منذ عشرات السنين. الميزانية تعدها وزارة المالية بالتعاون مع الوزارات والمصالح الحكومية الأخرى في غياب كامل للشورى والرأي العام. الأمر قائم على سياسة الكر والفر بين وزارة المالية صاحبة الصوت الأعلى واليد الطولى، وبين بقية الوزارات والجهات الحكومية الأخرى. لذلك فإنني أشك مرةً أخرى في قدرة الميزانية على تحقيق الفائدة العظمي الممكنة من مصروفاتها للوطن والمواطنين. • أما بالنسبة لحجم الميزانية الفلكي، الذي لم يسبق له مثيل كما تقول البيانات الرسمية والمقالات الصحفية وإظهار ذلك للمواطنين على أنه انعكاس لزيادة الناتج القومي وقوة الاقتصاد السعودي، فهذا خطأ وعدم دقة في إيضاح الحقائق الاقتصادية. فاستهلاك الثروة البترولية بمعدل تسعة ملايين برميل يومياً ليس إنتاجاً يُعزي إلى الاقتصاد الوطني، لكنه اضمحلال وتناقص في الثروة الوطنية البترولية. إن إيرادات الميزانية التي يتم منها الصرف والإنفاق يأتي ما يزيد على %90 منها (ميزانية العام الماضي) من استنزاف الثروة البترولية وبيعها في السوق العالمي. لذا، فإن إيرادات الميزانية وبالتالي مصروفاتها لا فضل لنا فيها، ولا يمكن إحالة هذه العملية الاستهلاكية للثروة البترولية إلى عملية إنتاجية للاقتصاد الوطني والقائمين عليه. يجب إعطاء الحقائق للمواطن ولولي الأمر ولو كانت الحقائق في بعض الأحيان مرة. أعود الآن إلى السؤال الثاني المتعلق بالأجيال المقبلة ونصيبها من هذه الميزانية وأقول: إن هذه الميزانية وكل الميزانيات السابقة على مدى ما يزيد على خمسين عاماً (1960 – 2010) جميعها قائمة على الأموال من البترول المستخرج من باطن الأرض. هذه الثروة البترولية ليست ملكاً لهذا الجيل ولكنها ملك أيضاً للأجيال المقبلة. هذا الجيل مؤتمن على هذه الثروة يأخذ منها ما يكفي لحاجاته الاستهلاكية والاستثمارية، ويدخر بأفضل الطرق ما يجب ادخاره للأجيال المقبلة، إما على هيئة بترول في باطن الأرض أو على هيئة أصول مالية واستثمارية لا تمسها يد الصرف والإنفاق مهما كانت الظروف والأحوال الاقتصادية، إلا تلك المتعلقة الكوارث والحروب. ماذا تقول الميزانية الفلكية عن هذا الادخار من الإيرادات البترولية المرصود للأجيال المقبلة؟ لم أسمع ولم أرَ شيئاً. نعم هناك أصول مالية للدولة ترعاها مؤسسة النقد هي من الفوائض المالية في السنوات السابقة، وهي أموال تستخدمها الدولة متى احتاجت إليها لتمويل مشروع طارئ أو سد عجز الميزانية عند انخفاض العوائد البترولية. لكن ليس هناك أموال واستثمارات ممهورة للأجيال المقبلة لا تمسها يد الإنفاق الحكومي. كما أسلفت في العنوان هناك أسئلة كثيرة تتعلق بحال الميزانية والأسس التي تبنى عليها وتصرف بموجبها ليس هنا مكانها، لكن منها: هل هناك إستراتيجية وطنية للإنفاق الحكومي بجانبيه الاستهلاكي والاستثماري تلتزم بها وزارة المالية، وتبني الميزانيات بناءً على خطوطها وقواعدها بدلاً من آلية الكر والفر كل عام بين وزارة المالية والجهات الحكومية الأخرى؟ هل جميع إيرادات الدولة وخصوصاً من البترول والغاز تُودع في حساب الدولة لدى مؤسسة النقد العربي السعودي، أم أن هنالك أموالاً تُصرف من خارج الميزانية، وإن وجد ذلك فما هي هذه المصروفات ولمن؟ هل جميع نفقات الميزانية مفصلة داخل الميزانية بالنسبة لجهاتها وأغراضها، أم أن هنالك بنوداً عامة وعمومية يمنع التفصيل فيها؟ نحن نفهم أن البنود المتعلقة بمشروعات الأمن والدفاع لها خصوصيتها فهل هناك بنود مجهولة غيرها؟ على أي سعرٍ للبترول بُني تقدير إيرادات الميزانية؟ وكيف يمكن أن يكون الإيراد المقدر في ميزانية العام الماضي يزيد بمعدل %106عن الإيراد المتحقق؟ هل هو خطأ في التقدير وبهذه النسبة العالية أم أنها سياسة تتبعها وزارة المالية للحد من الميل نحو الاستهلاك؟ وإن كان هذا هو الهدف، فهل هذه أفضل السبل للحد من الإنفاق؟ هناك مشروعات ونفقات تُعتمد بعد اعتماد الميزانية، فما هي الآلية لمثل هذه الحالات والمشروعات الاستثنائية، ومن هو صاحب القرار فيها؟ أسئلة وأسئلة كثيرة لا يتسع المجال لها.إذا عدنا إلى أرقام الميزانية الجديدة نجد أن الإيرادات المتوقعة تبلغ 702 بليون ريال، وهذا أقل من الإيراد المتحقق في العام المنصرم ومقداره 1110 بلايين ريال، كما حُددت النفقات في الميزانية الجديدة بمبلغ 690 بليون ريال، وهذا أقل مما أنفق في العام المنصرم، ومقداره 804 بلايين ريال. لذا، فإنني لا أفهم هذا التضخيم لهذه الميزانية إلا من حيث أن إيرادات العام الماضي من البترول اتضح أنها أكبر بأكثر من %100 مما قُدّر لها في العام الماضي، والفضل في ذلك يعود لارتفاع أسعار البترول ولسوء التنبؤ والتقدير، عمداً أو جهلاً. لكن العبرة ليست بحجم الأرقام فقط، ولكن الأهم، على من تُصرف، أي على كفاءة التوزيع. فإذا ألقينا نظرة سريعة على الإنفاق لوجدنا أن هنالك مبالغ كبيرة للإنفاق على المشروعات وجل هذه مشروعات للبناء، أي للأسمنت والحديد والمعدات والأراضي، أما الإنفاق المباشر على الإنسان من حيث الدخل والتعليم والصحة والسكن وحمايته من الفقر والجهل، فيأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة بعد الأسمنت والحديد وما شابههما، وهذا نهج في التنمية الاقتصادية السعودية، مع شديد الأسف، ليس بالجديد. لذا، فإن معادلة التنمية تحتاج إلى تغيير جوهري وذلك بوضع تطوير ورفع حياة الإنسان، رجلاً وامرأة، المادية والاجتماعية، أولاً وقبل كل شيء. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كم هي الأموال التي صُرفت على بناء الجامعات والكليات والمدارس، وكم هي تلك التي صُرفت على رفع مستوى المعلمين والمعلمات المادي والعلمي والاجتماعي ليتماهى مع أهمية التعليم ومكانته المحورية في بناء الفرد والمجتمع، بناءً حضارياً منتجاً؟