ربما لدى كل منا «فيل أزرق» في ذاكرته. يجعله أسير التفكير به. أسيراً له. وذلك الفيل الأزرق يعيد إلى الأذهان حكاية الخيميائي، الذي أفنى سنوات من عمره في محاولات يائسة لتحويل التراب إلى ذهب، فقصد بعد أن استبد به اليأس والفشل ساحراً طالباً المشورة، وكانت المفاجأة أن قال الساحر: «عد إلى مختبرك وحاول مرة أخرى، ستنجح، ولكن بشرط !». استدرك الساحر مقاطعاً بهجة الرجل الذي سأله بلهفة عن الشرط، فقال الساحر «الشرط ألا تفكر بفيل أزرق قط، وأنت تقوم بالمحاولة». لم يكن شرطاً يستحق القلق فيما يبدو، هذا ما أبهج الخيميائي الذي غادر مستبشراً بنجاح مهمته. لكن ذلك لم يكن من السهولة بمكان حين غدا الفيل الأزرق الذي حذره منه الخيميائي هاجساً يسيطر على تفكيره، ما انفك يخرج في رأسه كل حين. زرع الساحر في ذهن الخيميائي فكرة بسيطة، لكنها إرهابية، صار يعيشها ويعيش بها. هكذا البشر عادة. وهكذا المجتمعات حين تسيطر أفكار سيئة الذكر والسمعة على رؤوس أهلها، بعضهم، أو غالبهم. الأفكار الاجتماعية السلبية التي تهدد حضارة المجتمع وتقدمه هي أكثر الأمور ضرراً على تقدم البلدان. وتناسل الأفكار المرعبة وهمياً من فصيلة الفيل الأزرق، في ذهن البعض منا، تترسب غالباً من خلال مجموعة من العوامل الداخلية مختصة بالفرد وأخرى مختصة بالمجتمع، الذي هو في النهاية تكوين من مجموعة ضخمة من الأفراد يشكلون الثقافة العامة والإجمالية للمجتمع نفسه. إن مأساة شؤوننا الاجتماعية التي لا تخدم المدنية من التي تشكل ثقافتنا، وهي التي عادة ما تكون بعيدة عن الدين غالباً، هي ليست في الثقافات السلبية بقدر ما هي في إدارة تلك الثقافات والتعامل معها وترويضها وتشكيلها والعمل على تضاؤلها حتى تصغر وتموت مع الوقت. من الضرورة أن ينفتح المجتمع على الواقع والحضارات الأخرى. هذا ما قد نسميه الإصلاح الفكري الثقافي للمجتمع. وهذا من أسس ما نحتاج إليه الآن، وهو إصلاح الفكر العام. يقول إدجار موران الفيلسوف الفرنسي المعاصر، صاحب إستراتيجية الفكر المركب «يجب الصراع ضد هذا التوحيد لمعايير الفكر، وأعتقد أن واحدة من مهام المثقف، أن يتوجه إلى الرأي العام، فهو وكما يقول نيتشه يتوجّه إلى الجميع لا أحد، ليعالج مشكلات تبدو جوهرية وشاملة». ونظرية الفكر المركب لموران هي بالمناسبة إستراتيجية تربط الفكر والمعارف بعضها ببعض، وتعيد بناءها وتنظيمها من جديد، هو الأمر الذي يتطلب إصلاحاً شاملاً وواقعياً للفكر. ولتشخيص العطب والإشارة إلى تبعاته، فإن الإصلاح السياسي لا بد أن يتقاطع تماماً مع الإصلاح الفكري الثقافي للمجتمع. إنها مكونات متداخلة، حيث ثقافة وفكر المجتمع هو بمثابة البعد الحيوي الذي تقوم عليه التنمية، ومن ذلك إصلاح الفكر المنغلق، وتعزيز الحوار والقبول بالاختلاف والتنوع، وتعزيز حقوق المرأة وما إلى ذلك. إن الإصلاح الفكري الثقافي للمجتمع هو مدخل رئيس للتنمية الشاملة. إن أي إصلاح آخر لا يمكن أن يصل إلى مستوى نجاح حقيقي ما لم يصاحَب بإصلاح البنية التحتية الاجتماعية. فقد يحدث أن تتغير سياسات الدول وتتطور، لكنها بلا شك سيحدث أن تصطدم بمقاومات بين مَنْ يملكون امتيازات في السيطرة الاجتماعية التي تقوم على ميزان الدين والخصوصية التقليدية، إذ ستكون هذه التغيرات بمثابة تهديد لتلك الامتيازات ولتلك السطوة على المجتمع، وبين مقاومة المجتمع نفسه من جانب آخر هو المتأثر بشكل عام بالثقافة العامة، التي شرب ماءها وتربى ونبت في تربتها. وأشير مرة أخرى إلى تلك الترسبات السلبية المعيقة للطريق الحضاري المدني في بنية المجتمع نفسه. فالقيم الجديدة والمزروعة حديثاً، في مجتمع اعتاد على فكرة الفيل الأزرق المؤرقة، قد لا يساير هذه التغيرات بوتيرة السرعة نفسها. لذا يصطدم التغيير الإصلاحي بحفر تحتاج للردم. هي الحفر التي تكون فاصلاً بين التغيير السياسي الذي يتعلق مباشرة بالمجتمع، وبين التغيير في العقليات والسلوكيات. لذا نحتاج إلى رؤية فكرية تتزامن والإصلاحات الأخرى. رؤية تعزز من قدرة المجتمع على استيعاب التغييرات. لا شك أن فرض التغييرات من الأعلى بحد ذاته العامل الأهم للبدء، لكن تزامنه برؤية الإصلاح الفكري ترفع من نسبة نجاحها. إن الرؤية الشاملة للمهمة وإن كانت صعبة في بداياتها، فهي الطريق السالك لتسير عجلات التطوير محاذية بعضها البعض، فلا تنفلت عجلة عن المسار. ولنقل وداعاً أيها الفيل الأزرق.