من الأخطاء التي يقع فيها الناس -الواعظون غالبا- أن يظنوا أن إرادة الدين تتوجه -بدءاً- إلى الترهيب، وهو خطأ جسيم، وأنا سأبرر هذه الفكرة -أولاً- بمعيارٍ لغوي، وأرجو أن يطول بالكم عليّ قليلاً، لا أريد تحويل هذا المقال إلى مادة في اللغة، إنما نحن نعلم أن (ترهيب) هو مصدر الفعل (رهَّبَ)، نقول: رهَّبَ ترهيبا، وهي مفردة تعطي معنى صناعة الفزع والخوف، فأنا حين أقول: إن فلانا يُرهِّب فلانا، فمعنى هذا أنه يتطلب إفزاعه وتخويفه أو يتوجه إلى ذلك بإلحاح وتعمد لصناعة هذا الأثر النفسي شديد الوطأة. قد يكون ذلك لأجل المنع من فعل شيء، أو الحمل على فعل شيء، أو حتى للإخضاع أو لفرض اختيار ما، وينبني على ذلك أن يكون الترهيب نفياً للإرادة الحرة أو النزيهة، أي أن الإرادة يتم إخضاعها فلا تكون محايدة، أو أنها لا تكون مخلصة كما هو الحال حين الحديث عن الإقناع أو الحب أو القبول المحايد. هذه مقدمة ضرورية جدا نخلص منها إلى اعتقاد: أن الدين لا يتوجه مطلقاً إلى إرادة الترهيب لذاتها، لأنها بأثرها النفسي الشديد تعادل أو تساوي الجبر و الإخضاع، و لا يكون التدين المنبني على ذلك إلا نفاقا في الغالب الأعم، أو مداراةً أو اضطرابا و تخليطاً وجدانياً مؤلماً. علينا أن نفرق بين التبيين باعتباره مُراد الله -سبحانه و تعالى- و باعتباره أيضاً وجهة -بالنتيجة للدين- و بين الترهيب المتوالي القامع الذي يعمد إليه -أحياناً- بعض الواعظين، هذا في العادة يكون فيه شيءٌ من الجنوح والمبالغة؛ لأنه عمل بشري أو اجتهاد بشري، وهو أحيانا يتوجه إلى غير مكانه وإلى غير زمانه. هذا شيءٌ مُشْكِل، و أنا بهذا أريد أن أنبه إلى أن فعل الترهيب الذي أتحدث عنه إنما ينصرف فقط إلى الفعل البشري الناقص، وهو في شدته أحياناً يعادل الجبر كما أشرت قبل قليل. ليس مراداً للدين أبداً أن يطوع قلوب الناس بالخوف وحده، لأن الخوف في العادة حين يكون هو الغالب يتحول إلى ضجر، كما أنه حال استثنائي أو ينبغي أن يكون استثنائيا، فهو هدم نفسي، و ما كان لأي صورة من صور العبادة أن تكون انشراحا مع مثل هذا الحال، لأن الخوف انشغال معطل حين يزيد عما ينبغي. فبأي مقياس نقيس هذه المسألة؟ما هي صفة الخوف حين لا يجاوز ما ينبغي؟ فقط القدر الذي ينهى عن الإساءة أو الإصرار، أي أننا نخاف – فقط – حين نسيء لننتهي فلا يكون الخوف بعد ذلك، و نخاف حين نترك الأمر لنفعل، فلا يكون الخوف بعد ذلك، الخوف بهذا الاعتبار ليس مقصودا لذاته، هو فقط دافع ومانع، أي أنه حالة شعورية للمدافعة والممانعة، الإرادات تتدافع وتتمانع. وفي القرآن العظيم: «وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى». هذا هو المعيار، خوف يَنهى و يُنهِي، يَنهى عن الهوى ويُنهي ويقطع فعل الهوى إذا حدث. الآن أريد أن أشير إلى مسألة مهمة: كل ما انصرف عن الجذر اللغوي (ر ه ب) لم يرد في القرآن الكريم إلا 12 مرة، فيما ورد ما انصرف عن الجذر (ب ي ن) 260 مرة، و نحن نعلم أن الترهيب يعني صناعة الشعور من الخارج بينما الآيات الكريمة التي تُذكر فيها الرهبة تُرجع الشعور إلى النفس، فهنا صناعة الشعور بمؤثر داخلي هو: العلم بصفات الله تعالى والفهم عنه سبحانه، وهناك صناعة للشعور بمؤثر خارجي وهو: مظنة النقص في الغالب وهو مرتبط عند الناس غالبا بإرادة الإخضاع والتطويع. «واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم». و سأعود إلى هذا إن شاء الله.