التعاليم الدينية التي ترد في الكتب المقدسة أو على ألسنة الأنبياء لا تحض على الكراهية. إنها تعاليم تهتم بتنظيم حياة الأفراد، كما تهتم ببناء المجتمعات المتكافلة المتسامحة. لم تكن الأديان مأزقاً، ولا هي جزءٌ من المشكلة، لكن توظيفها من قبل الأفراد، وكذلك الجماعات، كانت هي المشكلة. فعلى يد من يريدون الاستئثار بالحكم وإدارة المجتمعات تتم عملية «توظيف» للدين، فيصبح أيديولوجيا تقوم على انتخاب ما يخدم أفراداً بعينهم (النخب السياسية ومن يتحالف معهم؛ السلطة الاجتماعية أو القوة الاقتصادية)، التي غالباً ما تكون ضد مصلحة الجماعة التي يديرونها، وهذا ما يمكن فهمه بشكل واضح حين ندرك أن الأيديولوجيا لا تقوم بالضرورة على الأكاذيب، بل على الانتقاء. وآلية الانتخاب من النص الديني هي تحديداً ما جعل الدين يشكّل مأزقاً؛ فالحاكم عن طريق من يكلفهم بالاشتغال بالدين، بصيغته الرسمية، يقوم بانتخاب ما يعبئ به الجماهير خلفه، فيستمد مشروعية وجوده من خلال نص ديني ليس كاملاً؛ لأنه يغيب بعض ما يتعلق بحقوق الجماعة فيصبح بمنأى عن المحاسبة؛ إذ يمكن تغليب فكرة خضوع الجماهير بعامة لسطوة الدين وسطوة السلطة، فالدين تمثل بعض تعاليمه وسائل إكراه فردي أو وسائل إكراه اجتماعي، بينما تمثل سطوة السلطة أسلوب «قهر» هو شكل من أشكال الإكراه، لكنه لا يتميز بالديمومة كما يتميز الإكراه الديني، كما لا يتميز بالرهان على الجانب الأخلاقي؛ لأن الدين وحده من يراهن على الأخلاق، ومنظومة الأخلاق هي الآليات الرئيسية لاشتغال الأديان داخل المجتمعات البشرية بصفة عامة. بالطبع لن تكون «منظومة الأخلاق»، بوصفها تعاليم دينية داخل مجتمع ما، قابلة للقياس؛ فهي لا تدخل في مقارنة مع منظومة أخلاقية تنبع من تعاليم طائفة دينية أخرى، أو دين آخر مختلف كلياً. فالأخلاق الدينية لأي مجتمع يمكن عرضها على ما يمكن تسميته بالأخلاق الإنسانية العامة، أي على خطوط عريضة يتفق عليها مجمل المجتمعات الإنسانية، وليست بذات علاقة بصيغ أو نصوص دينية. ومن هنا تأتي قابلية أدلجة «الأخلاق الدينية» داخل مجتمع ما، وتحويرها لتصبح وسيلة إكراه للأفراد؛ كأن تتحدث عن السرائر، وإخلاص النيّة، والانشقاق عن الحاكم، إضافة للتعاليم الخاصة بالعلاقات الاجتماعية والعبادات. أيضاً يمكن تحوير الأخلاق الدينية لتتحول إلى وسيلة إكراه للمجتمعات؛ كأن تركّز على مفاهيم الفتنة، والولاء المجتمعي، وإنتاج صيغ مقبولة لفكرة الأمير داخل كل مجموعة، إضافة للتعاليم الاجتماعية الأخرى. ولعل من أهم المؤشرات على قابلية التعاليم الدينية للأدلجة هو ما يمكن رصده داخل الطوائف الشديدة التطرف؛ كأن يصبح «الشتم والسب واللعن» وسيلة تقرب إلى الله، أو أن يكون «قتل» الآخر لسبب عقدي أو عرقي من القربات، وعلامة على خضوع «المتدين» لمنظومة أخلاقية دينية شديدة التطرف، من خلال اشتغالها على إكراه ينتمي للسلطة الدينية المشوهة؛ لأنها غير قابلة حتى للقياس بالنظر إلى الأخلاق الإنسانية العامة. إن الصيغة المقبولة للدين في المجتمعات البشرية بعامة هي صيغة الحارس والقائم على التراث؛ فالدين لدى بعض المجتمعات هو حارس التراث، أو هو المخترع له وفق مطلب السلطة الاجتماعية لتلبية مطالب الجماهير؛ لأنه -في نظرهم- مجرد صيغة «محددة» خلقتها الظروف الاجتماعية، فالعرف اصطلاحٌ اجتماعي يتم الاتفاق عليه عبر الأجيال، ويعتمد بدرجة كبيرة على النصوص الدينية المقدسة، ثم تأتي السلطة لتحويره وجعله أداة استخدام من خلالها تضمن ديمومة اشتغال التعاليم، هذا الاشتغال الأبرز والأكثر وضوحاً في جانبين مهمّين تحتكرهما السلطة السياسية الدينية، وهما المرأة والتعليم. أخيراً، إن آليات الإكراه الاجتماعي متعددة في مجتمعات إنسانية مختلفة، ومتباينة أحياناً؛ إذ من خلال سياسة المجتمعات وإخضاعها يكون الاستقرار السياسي. فالقانون هو الصيغة الأكثر قرباً من الأخلاق الإنسانية العامة؛ لأنه يأتي لحمايتها بعيداً عن الأيدولوجيا، فوجود «القانون» كصيغة موازية لعدد من صيغ «الإكراه» الاجتماعية المؤثرة بوعي أو بدون وعي في سلوك الفرد، لا يلغي إمكانية أن القانون ليس وحده، وإن كان الشكل الأقرب إلى مفهوم الحضارة، هو شكل الإكراه الاجتماعي الوحيد داخل كثير من المجتمعات، فهناك شكل له علاقة بالأوامر الأخلاقية المنتخبة بعناية من نصوص دينية مقدسة تخفي ما يناقضها، فالدين هو الآلية الأسهل لفهم الحياة الاجتماعية، وضبط سلوك أفرادها اجتماعياً وسياسياً، ولعل المقياس في فهم هذه الآلية داخل بعض المجتمعات هو تحليل محتوى خطاباتها السياسية والدينية الرسمية؛ لمعرفة عمق وأثر وجود المنظومة الأخلاقية الدينية كسلطة إكراه تعمل على تقويض ما سواها من تعاليم في سبيل تحقيق غايات النخب السياسية.