جوبا – محمد الغامدي مطار العاصمة أقرب إلى المطارات الإقليمية. كل مَن في جوبا يعيش في الظلام إلا مَنْ يملك مولِّداً. سفارة الجنوب في الخرطوم لم تسهِّل إجراءات السفر. بدأت رحلة «الشرق» إلى دولة جنوب السودان بمعاناةٍ لازمت مراسليها منذ أن وصلوا إلى مقر سفارة جوبا في الخرطوم، ثم استمرت المصاعب في مطار العاصمة الجنوبية مروراً بالبحث عن فندق ومحاولة التقاء المسؤولين الرسميين. ذهبت «الشرق» إلى جوبا لرصد تفاصيل دولة ناشئة تبحث عن فرص الاستثمار والظهور عبر وسائل الإعلام كما يقول وزير الإعلام في حكومتها برنابا بنجامين. وخلال هذه الرحلة اختلطت الجوانب الإنسانية والاجتماعية بما هو سياسي وما هو اقتصادي، كما لم يكن البُعد التاريخي غائباً، تحدثت «الشرق» إلى مسؤولين في الحكومة وإلى مواطنين، وتعرفت على حجم المشكلات والتحديات التي تواجه هذه الدولة، وحاولت استشراف مستقبلها القريب. تواجه جنوب السودان، الدولة الحديثة المولد، صعوباتٍ تتعلق باللغة، إذ إنها منذ أن تأسست عام 2011 اعتمدت الإنجليزية لغة رسمية للبلاد، لكن اللهجات المحلية كثيرة ولا يريد أهلها التخلي عنها. لكن أصعب ما تواجهه جوبا هو اللغة العربية أو اللهجة المسماة «عربي جوبا»، فهي السائدة في معظم أنحاء البلاد، والكل يتحدث بها إلى جانب اللهجات المحلية. ويشكو كثير من طلاب المدارس من عدم نجاحهم بسبب عدم فهمهم الإنجليزية، وهذه الإشكالية تحدث عنها الدكتور نتانيا بايا، رئيس قسم اللغة الإنجليزية في جامعة جوبا، حيث قال إنهم يحاولون قدر الإمكان التأكد من أن الطلاب الذين درسوا باللغة العربية يستطيعون الاستفادة من النظام التعليمي، وأضاف: «بسّطنا اللغة لكي يفهم طلاب العربية أسئلة الامتحانات، ونساعدهم أيضاً على فهم المحاضرات عن طريق التحول بين اللغتين». بداية الرحلة في بداية رحلتي إلى جنوب السودان، التي انطلقت من سفارة جوبا في الخرطوم، قوبلت أنا وزميلي عبدالنبي شاهين ببرود غير منتظر، خصوصاً أن هناك تواصلاً مسبقاً بين السفارة ومدير مكتب وزير الإعلام في جوبا، وبعد أن استقبلنا القنصل المسؤول عن التأشيرات بفتور، قال «اتركا جوازيكما وسنتصل بكما بعد نصف ساعة»، ولم نصل إلى سدة باب السفارة حتى كانت السكرتيرة تدعونا وتقول لنا «خذا الجوازين وسنتصل بكما». مرت ساعة كاملة ولم يتصل بنا أحد، كنت قلقاً فقلت لزميلي إن علينا الذهاب للسفارة، ردَّ بالقول «دعنا ننتظر الاتصال»، قلت «لا، علينا الذهاب إلى السفارة وإلا فإن يومنا سيضيع، فالساعة قاربت الواحدة والنصف». عدنا إلى السفارة، وبعد أن فُتِحَ لنا الباب وانتظرنا لمدة 15 دقيقة في الصالة قلت للسكرتيرة «أريد مقابلة السفير الآن»، ردَّت بأنه في اجتماع، قلت «ضروري جداً أن أقابل مسؤولاً»، لم ترد عليَّ، اتجهتُ إلى باب القنصل المسؤول عن التأشيرات وأخرجت له جواز سفري وخطاب الصحيفة إلى وزارة الإعلام في جنوب السودان، فقال للسكرتيرة أمامي «ألم أقل لك أن لا تُدخِلي عليَّ أي أحد»، فقلت «أريد مقابلة السفير وليس مقابلتك»، قال «اذهب للملحق الإعلامي وقابله»، صعدنا إلى الدور الأول وقابلنا الملحق الإعلامي، الذي استقبلنا بلباقة، فشرحنا له معاناتنا خلال الساعتين الماضيتين، قال «ستُمنَحان التأشيرات اليوم»، ثم سلَّم جوازات السفر إلى إحدى الموظفات في قسم التأشيرات، وخاطبنا بقوله «انتظرا في الأسفل حتى تأتي التأشيرات». بعد نصف ساعة، أتت الموظفة وفي يدها جوازا السفر، لكنها قالت «السعودي يدفع بالدولار والسوداني بالجنيه السوداني»، قلت «يا الله.. ومن أين نأتي بالدولار في الخرطوم؟»، وبعد رحلة شاقة إلى أم درمان وسط الزحام استطاع زميلي عبدالنبي شاهين الوصول إلى 120 دولاراً وجدها لدى والده. وعلى باب السفارة وجدنا الملحق الإعلامي على وشك الخروج، أعدناه إلى العمل ثم سددنا المبالغ المطلوبة وأخذنا جوازينا وخرجنا ونحن غير مصدِّقين أنه تم إنجاز هذه المهمة الصعبة التي جاءت كمقدمة لما هو آتٍ، وكأنها تنبئ بأن القادم أصعب. مطار جوبا من الصعوبات التي تواجهها جنوب السودان عدم وجود مستثمرين، إلى الآن لم يطمئن أحدٌ للاستثمار في هذه الدولة إلا نفرٌ قليل ممن يملكون روح المغامرة الفردية، ويسعون إلى استغلال الأوضاع المضطربة في الجنوب كي يحوزوا أكبر قدرٍ من الغنيمة ويصلوا إلى الثراء سريعاً عبر استغلال الوضع، أما المؤسسات أو الشركات الكبيرة فلا وجود لها. ولعل ما يعكس هذه الأوضاع هو ما يواجهك أول ما تطأ قدمك أرض الجنوب، حيث مطار العاصمة جوبا وهو أقل من ناحية الإمكانات من أي مطار إقليمي في المملكة؛ فيه خرجنا مباشرةً من الطائرة إلى صالة الجوازات وهي أقرب إلى مركز صغير لتلقي المسافرين والجميع وقوف، شباكان فيهما يستقبلون الجوازات ويختمونها، ومن ثم تنتظر حتى يصل «العفش» لتجد نفسك في هذه الصالة في منطقة «حراج»، بمجرد وصول سيارة الجيب محملاً بالعفش تبدأ وسط الزحام تطالب العامل بأن يسحب لك حقيبتك قبل الآخرين. في هذه الصالة الضيقة التي لم تحتمل طائرة فيها مائة شخص هناك ثلاث طاولات يجلس عليها ثلاث من الجوازات عليك المرور عليهن كي يفتشن حقيبتك يدوياً، لا يكفيك الوقوف الأول كي يصيبك التعب، بل عليك أن تحمل عفشك وتنقله من مكان إلى آخر وسط زحام شديد يصعب فيه أن تتحرك بسهولة، ثم يُكتَب بالطبشورة على الحقيبة علامة Q، تكون اجتزت هذا التفتيش، تحمل «شنطتك»، تريد الخروج من هذه الصالة لتصل إلى بوابة صغيرة يقف فيها ثلاثة يأخذ أحدهم جوازك وبعد أن يتفحصه يسألك أين الورقة الصفراء؟ أي ورقة صفراء؟ ودون أن يرد يقول لك «اذهب إلى الدكتور ليخبرك»، ويشير إلى شخص يقف خارج البوابة، أذهب إليه وأسأله عن الورقة الصفراء، فيقول «مثل هذه!»، وهي ورقة من منظمة الصحة العالمية عبارة عن كشف يدلل على تلقيك التطعيمات وخلوِّك من الأمراض، فقلت له: «أمس كنت في سفارتكم في الخرطوم ولم يبلغوني بضرورة حمل هذه الورقة، ثم إنني أخذت التطعيمات ولديّ أيضاً حبوب ضد الملاريا»، قال «اجلس»، وبودٍّ غير طبيعي جلس يتحدث معي، فأبلغته بمهمتنا الصحفية وبسبب مجيئنا إلى جوبا، وأخرجت زجاجة عطر من حقيبة اللاب توب وقدمتها له، فقال «انتظر قليلاً»، وبعدها قال لمن في يده جواز السفر أعطِه الجواز، أخذت جوازي وجواز زميلي وخرجنا من المطار على أمل أن نلقى ممثل وزارة الإعلام الذي رتبنا معه ليستقبلنا، بل الذي وعد باستقبالنا، ولكن لا أحد وجدناه أمامنا. وبعد اتصالات من زميلي شاهين أبلغنا سكرتير وزير الإعلام أنه سيأتي بنفسه للمطار، قلت لزميلي «كنت أتمنى أن يكون في استقبالنا في الصالة بالداخل كي يسهِّل إجراءات دخولنا بدلاً عن تلك (الشحططة) التي مررنا بها»، لم يجد جواباً سوى هز رأسه، وبعد نصف ساعة من الانتظار وصل مدير مكتب الوزير وسألنا «أي فندق ستنزلون؟»، أجبنا «نريد مقابلة الوزير الآن». اتجهنا إلى وزارة الإعلام وجلسنا هناك ما يقارب الساعة كي نقابل الوزير، لم نستطِع بحجة الاجتماعات، أبلغنا مدير مكتبه بالترتيبات اللازمة لزيارتنا هذه، التي تم الاتفاق عليها مسبقاً، فردَّ «غداً ستجلسان مع الوزير وسنصدر لكما بطاقة لتتحركا وتصورا وتذهبا إلى أي مكان تشاءان دون أن يستوقفكما أحد»، وأضاف «سأصل معكما الآن للفندق كي ترتاحا وبعدها سأتواصل معكما، هو فندق ريجنسي القريب من الوزارات، تستطيعان التحرك منه على أقدامكما، وافقنا بعد أن سألناه عن السعر ليبلغنا أنه خمسون دولاراً، وعند دخولنا للفندق تحدث مع مديره وهو إريتري الجنسية، وبعد تبادل أحاديث مع زميلي شاهين قال «اذهبا إلى الاستقبال لإنهاء إجراءات سكنكما»، وبمجرد وصولنا سألت كم الليلة هنا؟ قالت موظفة الاستقبال «250 دولاراً»، ضحكتُ وضحك زميلي، التفتُّ إلى مدير مكتب وزير الإعلام بيتر شول، وقلت «أعتقد أن خمسين دولاراً ليست هي السعر الحقيقي لأمثالنا، بل هي لكما هنا في جوبا»، فقالت الكاشيرة: «كم تدفعان؟» علق زميلي شاهين: «هل هي بضاعة تبيعون وتشترون فيها، أم هو سعر عالمي محدد لكل من يدخل الفندق؟»، قالت: «خلاص 150 دولاراً»، فقلت: «طالما أنها مساومة فلا داعي لجلوسنا هنا.. دعنا نبحث عن فندق آخر». عاصمة بلا كهرباء توجهنا إلى فندق أصغر واتفقنا على سعر خمسين دولاراً، الفندق مكون من طابقين، كل طابق عبارة عن غرف متجاورة، الغرفة مساحتها لا تزيد على خمسة أمتار في خمسة أمتار مع دورة المياه الخاصة بها، دخلنا الساعة الثانية والنصف ظهراً، ولم تأتِ الساعة الرابعة حتى انقطعت الكهرباء، سألنا صاحب الفندق وهو إريتري أيضاً، فقال «تعود الساعة السادسة والنصف». كل جوبا تسير على هذا المنوال، الكهرباء تنطفئ الساعة الثالثة فجراً وتعود الثانية بعد الظهر لمدة ساعتين ونصف، وتغلق لتعاود مرة أخرى السادسة والنصف حتى الثالثة فجراً، هذا الوضع لا ينطبق على السكان، كل من في جوبا يعيش في الظلام إلا من يملك مولد كهرباء خاصاً به، وهو ما لا يتوفر إلا لقلة قليلة، فالكهرباء المركزية لم تعمل إلى الآن، ولن تعمل قبل سنوات على حد تأكيد كثير من أهالي جوبا، فالدولة لا تتحرك نحو التنمية بشكل صحيح، وتسيطر عليها مجموعة من الأفراد يبحثون عن مصلحتهم فقط، هذا التعبير الأخير قاله محامٍ كبير قابلته صدفة في أحد المقاهي. في اليوم التالي ذهبنا إلى وزارة الإعلام، لنجد أن مدير مكتب الوزير اختفى تماماً، إلى اليوم لم نقابله، وبعد مجادلات طويلة استغرقت نصف ساعة دخل أحدهم إلى الوزير وأبلغه بوجودنا، وقال «سيستقبلكما بعد قليل»، القليل هذا كان عبارة عن ساعة ونصف حتى دخلنا عليه. مقابلة الوزير وزير الإعلام بيتر شول بمجرد دخولنا إليه، استقبلنا وزير الإعلام في جنوب السودان، برنابا بنجامين، بابتسامة واصطف إلى جانبنا لالتقاط الصور التذكارية، أجلسنا إلى طاولة الاجتماعات الواقعة أمام مكتبه، أخبرناه بما أتينا من أجله وبالموافقة المسبقة التي أتينا بها، وبأن هدفنا من هذه الزيارة هو مقابلة الرئيس سيلفا كير ونائبه ووزيري البترول والاستثمار، ومن ثم سنختم برنامجنا بلقاءٍ معه بعد أن نكون كوّنّا فكرة متكاملة عن البلد، رحّب بنا ترحيباً جميلاً، وقال «إن البلد جديد ويحتاج إلى الإعلام والمستثمرين، ونأمل أن تعكسوا ذلك بصورة جيدة، وسيتم عمل بطاقة صحفية لكما تتحركان بها أينما تشاءان، وسيفيدكما في هذا الشأن مدير عام الوزارة، وسيكون متابعاً معكما في أي شيء أردتماه، وأردف: «سنرتب لكما هذه اللقاءات وسأتحدث بنفسي لتقابلا الرئيس ونائبه والوزراء المعنيين وأهمهم وزير البترول، الآن اذهبا واجلسا معه في مكتبه وأكملا ترتيباتكما وإجراءات استخراج البطاقة، وبعد أن تنتهيا من برنامجكما لنا لقاء»، قال زميلي «نأمل مقابلة سيادة الرئيس سيلفا كير غداً»، رد الوزير: «سأسعى لذلك، وسنخبركما بهذا عبر الجوال»، قطعاً كنت أنصت وأنا مندهش لأننا أتينا وفق برنامج معد سلفاً ويفترض أن كل هذه اللقاءات التي تحدث عنها الوزير سبق وأن بُرمِجَت، ويفترض أننا هنا ليقول لنا مواعيد اللقاءات ومتى، لا أن يرتب لنا! أحد الشوارع الرئيسة في حي الكويت بالعاصمة جوبا (الشرق) عملة جنوب السودان (الدولار يعادل أربعة جنيهات) معظم المساكن أشكالها الهندسية وبناؤها يأخذ الطابع اليوغندي دولة جنوب السودان (جرافيك الشرق)