الباحة – علي الرباعي قطعتُ بعثة الماجستير والدكتوراة في واشنطن بسبب وفاة أخي محمد تجزم حين تراه أنَّه خرج من رحم الأرض الأولى، وعلقت به دون قصدٍ رائحةُ المكان وسحنة الإنسان، عفوياً في مظهره؛ كون الجواهر الثمينة قيمتُها في عمقِها لا في بهرجها. ذاتَ مساء في العاصمة الرياض، وعلى هامش مناسبة ثقافية، عمد إلى مجمع كبير لاقتناء هديَّة لشريكة العمر، وكان وقتُ صلاة العشاء، فمرَّ به رجال حسبة، جرَّأتهم بساطة مظهره على القبض عليه وأخذه للمركز، وحين وصل مقرَّهم سألوه: مَن أنت، ومِن أين؟، فردَّ عليهم «خذوا حفنةً من تراب هذه الأرض واسألوها مَن أنا وهي تجيبُكم!»، فعلموا أنَّهم أمامَ شخصيَّة ثقافيَّة نادرة، وحين عرفوه اعتذروا منه، وأعاده أحد مسؤولي المركز بسيارته الخاصة إلى الفندق، مُقدِّماً كثير اعتذاره وأسفه، وكان يردُّ على الموقف ضاحكاً وساخراً من زمن رديء اشتغل أهلُه بالقشور، فتهافتت بهم واضمحلت كثيراً من إنسانيتهم. إنَّه إبراهيم طالع الألمعي، اقتربتُ من بئره فشرقتُ بين نضاحة اللغوي، وفصاحة الشاعر، ونصاحة الكاتب، وسماحة العاشق، ولعلي فزتُ بشيء من جمّ البئر الأولى هو بين أيديكم: خير ولادتي * ماذا أبقت الذاكرةُ من يوم مولدك وتاريخ وظروف الولادة؟ - مولدي كان بعد سنة (ومِّ الجلود)، سنة أكل الناس فيها جلود البهائم الميِّتَة، وطحنوا لحاء الشَّجَر وأوراق الغَلْف، وكانت ولادتي سبباً في عودة أمي إلى أبي بعد فراقٍ كاد يكون طلاقاً، إذ ولدتني عند أهلها، وكانت هي ووالدتي الأخرى «علوة» الصدر الحنون (أم محمد السلمي، مدير عام الأحوال المدنية بمنطقة عسير) تتناوبان إرضاعَنا والعنايةَ بنا، فتذهبُ واحدةٌ لتحتطب أو تعتلف وتبيع في السوق، والأخرى ترعى طفليهما، وبعد علم أبي بولادتي أتى ب(حِفْدَتِيْ) التي يُطْلَقُ عليها عقيقة، ثمَّ أخَذَنا بعد خمس سنوات من زواج بلا إنجاب في زمن كانت أهميَّةُ الأطفال فيه تزيدُ على كونها زينةً ووراثةً، إلى كونها دعماً حياتيًّا عمليًّا، وما قلتُه هو مِن ذاكرة الوالدين. أهازيج ولثغة * هل روت لك الجدة أو الأم عن مرحلة طفولتك وملامحك الأولى وعلاقتك بالأشياء؟ - منْ أجملِ ما كانَ يجذبُ في حكايات أمي (فاطمة) عنِّي أثناءَ الطفولة ترويستي، كانت تذكرُ طولَ شعر رأسي بكلِّ متعة، كما كانت تردِّدُ لي ذكرياتِ صيدِنا الجرادَ في الجبال والأودية والمزارع، وما كنتُ أردِّدُه أثناءَ القبض على بعضِها، كما تذكِّرُني بالأهازيج التي حفظتُها في السنين الأولى، ولثغتي في أداء (الدّمَّات) الشَّعبية، أما أجملُ ما أذكرُه عن جدَّتي (حليمة) فهو خصامُها مع الأهل؛ لأنَّهَا تأخذُ زبدةَ بقرتِنا وتضعُها في (حكْرَة) خاصة عندَها وتدهنُ بها لي الخُبز، أمَّا البقيَّة فكانوا يفضِّلونَ الاحتفاظَ بها لضيف وطارش. مدرسة الوالدة * أي أنثى تلك التي احتوتك مبكراً؟ - لا شكّ أنها (ومّكْ فاطمة) رحمها الله، تلك سيِّدة مدرسة، بهدهدتها بأهازيجنا ومنها «ياللَّهْ بنومٍ هانيْ، يدبِّ لكْ دباَّنِ، دبِّ الغنمْ والضَّانِ، وابنيْ سرَى امِّعْلاَمَهْ.. بختْمَتُو واقْلاَمَهْ، وابْنِيْ سرى يساقِيْ، سقَى مِيَةْ معادِ، وروَّحْ وعادَ الباقِيْ)، كانَ الفرحُ والبكاءُ كلاهما عندهم بالغناء، فكمْ دموعٍ رأيتُها معَ الغناء، كنياحتِهم على ميِّتٍ كانَ يسكنُ حصناً يسمَّى (شهران) فبكوه شهران «الاَ يا نَعاَكْ، ما ليْ ولاَ اسْمعْ بكاكْ، على الّذيْ قدْ بناكْ، وبالمصبَّبْ حماكْ». حب أبها * ما هي المدينة المعشوقة حدَّ الافتتان؟ - حاولتُ كثيراً حبَّ المدن فلمْ أُفْلِحْ، لي بيتٌ في أبها ولمْ أستطعْ حبَّه ولا حبَّها، كانت فاتنةً حدَّ الإغواء قبل تدميرها، أمَّا الآن فلم تعدْ أبها أبهى، ولمْ أستطعْ استيعاب زحمة الوجوه والشوارع، ولمْ أجدْ في المدنِ هنا رائحة الأرض ولا علائق الحياة الفطريَّة، قد أكون أحبُّ، نوعاً ما، مدن الجزائر؛ لأنَّ للمدن هناك شخصيات مستقلَّة نابعة من الأرض وثقافتها. باريس وألمع * أين تجد نفسك من عواصم العالم التي زرتها؟ - أجدها في (مدينة الجن والملائكة – باريس) لكن هيهات مقارنتها بألمع، ثم في مدن الجزائر. استهداء كتب * ما أول كتاب قرأته؟ وبمن تعلقت من كتاب سِنِيِّ القراءة الأولى؟ - في الصف الثاني الابتدائي كان هناك معلمٌ سوريٌّ أحبني كثيراً لحبه إحدى فتيات القرية، فاهتمَّ بي، وقرَّرَ أن آخذ كل يوم كُتيباً للسيرة النبوية متسلسلة في 26 كتيباً بحروف كبيرة ملوَّنة رائعة، وكلما قرأت واحداً أعدتُه للمدرسة، وأخذتُ الذي يليه، وفي الخامس الابتدائي اعتمر أبي، رحمه الله، فاستهدى لي كتاب (رياض الصالحين) لأقرأ لهم فيه، فالبيتُ كله أميٌّ، وكان هذا مصدرَ سعادة، كما استهدى معه كتاب (تاريخ عسير) للمرحوم الشيخ هاشم النعمي، وكان يحرم كلمة (شراء) على الكتاب، فإذا اشتريته فقل استهديت ولا أذكرُ أنني تعلقت بأحد أكثر من تعلُّقي بأبي العلاء المعري. * ما أول مقال أو نص نُشر لك، وأين، ومتى؟ - لم أكنْ مهتمًّا على الإطلاق بمفهوم النشر ولا الإعلام، وبنائي تعليميٌّ بالدرجة الأساس، وأذكرُ أنَّ أولَ ما رأيتُه منشوراً لي كان نصًّا شعريًّا هرَّبه الأديب المعروف إبراهيم شحبي إلى صحيفة «الرياض»، فنشر ولم أهتم، غير أنَّني جرَّبت شخصياً النشر في المجلة العربية سنة 1403ه، لأنَّها كانت تمنحُ مكافآتٍ مُجزيَة، وما لبث الأديب إبراهيم شحبي أنْ أقنعني بشدَّة بأهمِّيَّة ما أكتبه فصدَّقتُه، وأخذني الشاعر والإعلاميُّ الرائع عبدالعزيز الشريف، واعتبرني ضمنَ سوقِه الذي برز فيه في «البلاد»، وأكثرَ من مدحي حتى أغواني بغواية الكتابة المنتظمة، ولاأزال أطالبه هو وقينان الغامدي والإعلاميَّين الخلوقين عبدالعزيز الخزام وعيد الخميسي وصحبهما، أطالبهم بكامل حقوقي. الصديق الأول * من صديقك الأول؟ - يصعبُ -عندي- التفريق بين ذاتي وبين الأدباء المعروفين إبراهيم شحبي، وعلي مغاوي، وعبدالعزيز الشريف. حدث مؤثر * ما أبرز الأحداث المؤثرة في ذاكرة أبي حسن؟ - لا شيءَ يعدلُ موت أخي (محمد) الأصغر مني في الصف الثاني المتوسِّط، فقد أعلنَ الناس عندها جنوني، وقطعتُ بعثة الماجستير والدكتوراة إلى مركز التِّعداد العالمي بواشنطن لأعود راضياً إلى ألمع في مجال التعليم وبعدَه موت والديّ. أوائل * متى ذرفت أول دمعة، ولماذا؟ - بالتأكيد لا أعلم ولن تعلم أنت أو غيرك، إلا أن أشهر ما أذكره منها دموعي ونحيبي على طاقية جديدة اشتراها أبي لي في الصف الأول الابتدائي بعد أن أخذها أحدهم من الكبار ودخل بها بين شجر الوادي ثم أعلن أنه لوثها فيها، فعدتُ إلى البيت باكياً، ما دعا أمي إلى اعتراضِه وتضاربا بكل آلة حتى سالت دماؤهما. * ما أول إصدار، وما ردة الفعل تجاهه؟ - كان ديوان (هجير) عام 1403ه، طربتُ له طربَ مَن أنجب طفلاً بعد زواج طويل دون إنجاب. * من هو أول مسؤول التقيته وتود أن تقول له شكراً؟ - مدير مدرستي الأولى (الابتدائية) المرحوم إبراهيم مغاوي، رحمه الله، إذ لم أستطع التعبير عنه وعن أبي حتى الآن، ولم ألقَ حتى اليوم أحداً يقارب شخصيَّته وشيمه وقيمه معي ومع غيري. دائرة الأصدقاء * من هو الصديق الأقرب إليك؟ - لا أعتقد أنَّ أحداً ثريًّا بالأصدقاء الجميلين مثلي وأنت منهم، لكنْ يبقى الأقربون هم من ذكرتهم شحبي ومغاوي والشريف، ويصعبُ اختلاطهم بدائرة الأصدقاء الكثر. حنين * إلى أي جهة يأخذك الحنين ولماذا؟ - يأخذني الحنينُ إلى سروات ما قبل عام 1400ه، قبل أن تتكرم كاتبة قصور تلك الأيام، تدعى (هيا المنيع)، بإهداء جنوبي الوطن زاوية في جريدة «الرياض» عن إهانة المرأة العربية، ما زاد من انقباض نصف المجتمع عن الرعي والعمل في المزارع، وقضى على كل أهازيج الزارعات والراعيات والمحتفلات. * ما الذي يبقى عصياً على النيل والامتطاء؟ - إدراكُ الأفراد بأنَّ التذاكيْ غايةٌ في الغباء، وأنَّ جوهر الحياة والحبِّ هو العلمُ بأنَّ كلَّ الناسِ أذكياء، طيِّبون لولا التّذاكي. * هل لايزال سهيلٌ يمانياً؟ - أعتقدُ أنَّ حصارَه اليومَ زاد، ولا أخافُ عليهِ سوى يومٍ سيتركُهُ فيه من أطبقُوا عليه زمناً، ويهربون برؤوس أموالهم التي صادروه من أجلها، ليبقى يتيماً يغنِّيْ وحده: «متى ما سهيلِ امْيَماَنِيْ سقانا../ ودقْلِ الرّوابعْ تقاَصَفْ رعودِهْ/ فَتِمْسِيْ على خيْرِ ياَخْضَرْ محنَّى../ تَمَسَّوا على خيرِ والصّبْحِ مناَّ». اختصار سيرة: إبراهيم طالع الألمعي، مواليد السبعينيات الهجرية، النشأة الأولى والابتدائية رجال ألمع، ثم الانتقال إلى السروات (أبها) – المعهد العلمي في الثمانينات الهجرية، ثم الانتقال إلى الرياض في التسعينيات، وتحديداً معهد الإدارة العامة لدراسة الإحصاء 24 شهراً، خلالها انتسب لكلية اللغة العربية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عمل باحثَ إحصاءٍ ومعلماً ومدير مدرسة ومشرفاً تربويًّا ومشرفاً ثقافيًّا (تخللها العمل موفداً إلى الجزائر أربع سنوات «بربريات»)، له ثلاثة دواوين، وستة كتب صدرت حتى الآن، وكثير من المخطوطات، فاز بجائزة أبها مرتين، كتب المقالة في صحف ومجلات، منها: البلاد، المدينة، الوطن، الشرق، والمجلة العربية.