طه حسين كان يشتهي أن يرى أحد كتبه التي تقرأها عيون الملايين وتنظر إليها.. وطه حسين يسمع ويتحدث بحنجرة رائعة. لكن (هيلين كيلر) الكاتبة الأمريكية لم تبصر كتبها ولم تسمعها.. فالمرأة هذه التي ستصبح كاتبة شهيرة ولدت عمياء صماء بكماء… كتلة من اللحم.. والأم الحزينة عاجزة.. والأم حين تصبح الطفلة في السادسة تأتي إليها بمعلمة اسمها (ماري ان).. والأم لا يخطر لها أنها تطلق أروع قاصة في العالم. عند اللحظة الأولى المعلمة تلمس الطفلة.. والطفلة تنكمش مثل حيوان متوحش.. وتبتعد والمعلمة تمسك بها والصراخ بين الجسدين يثور، والمناقشة.. «اللغة الأعظم» تبدأ عملها، والطفلة… تدرك أن هذا الجسد الذي يصارعها لا يريد بها شرا… فتهدأ. وفي دقائق كانت المعلمة تبتكر اللغة التي تفتح كل أبواب الحوار بينها وبين الطفلة.. الملامسة… والتعليم يبدأ. أنت ترى الناس والحيطان والمسافات.. والطفلة لم تر هذا. المعلمة تقود الطفلة إلى الباب حبوا حتى تشعر بالأرض وبالمسافة.. أنت تعرف ما هو الطريق لكن الطفلة لم تكن تعرف.. والمعلمة تجعلها تلمس حيطان المنازل وتعبر الطريق من الرصيف إلى الرصيف. والطفلة تعرف الطريق.. وأنت ترى الفضاء وتعرف الطيران.. والطفلة لا تعرف.. والمعلمة تأتي لها بطائر تضعه في حجرها.. والطائر الذي يحاول الإفلات يخبط وجه الطفلة بأجنحته.. والطفلة تتشبث به في بهجة عارمة وتعرف ما هو الطير. والمعلمة تجعل خيطا في ساق الطائر وتربطه في ذراع الطفلة وتجعل الطائر يطير… والطفلة ممسكة بالخيط. والطفلة تعرف ماهو الطيران. والمعلمة تعلمها ما هو الماء والبحر والهواء والزحام والمشاعر والغضب والرضا، وتعلمها ما هو اللسان وما هي العين وما هو الأنف وما هو الطفل وما هو الشاب وما هو الشيخ. أنت تعرف كل هذا ولا يخطر لك في أي نعمة أنت تعيش. الثقافة العربية ما يجعلها أن تعجز عن سقيا النفوس هو أنها تقدم دون جسم يحملها والثقافة العربية تفتقر إلى (ماري ان). والمرحوم عبدالسلام سليمان حين يدعونه لتقديم محاضرة لثانوية للبنات يكتفي بعرض فيلم العقاد (الرسالة) والطالبات في أقصى غرب السودان يتابعن الفيلم بذهول وحين تنغرس حربة وحشي في صدر حمزة تنطلق صرخات البنات وكأن حمزة قتل الساعة. ونحتاج إلى ألف (ماري ان) لنقدم الثقافة الإسلامية.