عن دار توبقال للنشر، وضمن سلسلة نصوص أدبية، صدر للشاعر ياسين عدنان كتاب شعري بعنوان «دفتر العابر». وهو كتابٌ وحيدُ النّص جاء في أزيد من مائتي صفحة تزخر بالأمكنة من مختلف القارات وبالناس من مختلف اللغات والأمزجة. وكأنّ الشاعر الذي زُيِّن له السفر يوجِّه، بهذا الكتاب، تحية شاسعة للبلاد والعباد. ليست الأمكنة وحدها ما يلفت النظر في دفتر العابر. صحيح أن العواصم والفنادق والمطارات والموانئ والغابات والبحيرات.. تحضر مُعْتَدَّة بنسائها ونبيذها وأغانيها وأشجارها وأيائلها.. لكن هنالك أيضاً حضور واضح للكتّاب، والفنانين، والكتب، والجرائد، والشعراء، والفلاسفة. ما يعني أن الشاعر ليس مسافراً كبيراً فحسب، بل هو قارئ كبير كذلك. ولعل الأسفار اجتمعت بالأسفار، فجاء «دفتر العابر» سِفْراً تظهر على صفحاته آثار النعمتين، نعمة السَّفر ونعمة القراءة. يكتب ياسين عدنان القصة والشعر، وله فيهما إصدارات فارِقة، مثلما يشتغل بكل فروع الصحافة. لذلك فهو يجيد الكثير من اللغات العربية، الدارج منها والفصيح، الرائج والمهمل.. وهي التشكيلة التي أجاد توظيفها في «دفتر العابر». فمن جهة، واجه عُجْمَة المكان بفصاحة اللسان. ومن جهة أخرى، أعطى للعديد من الكلمات حرية أن تلعب بلا شعر لتفسح لزميلاتها في النص، تماماً كما يلعب لاعب بدون كرة ليجد لزملائه مساحات للتحرك. ومن جهة ثالثة، يسفر الكتاب عن لياقة شعرية عالية بالنظر إلى شوطه الطويل المتواصل والممتد على أكثر من مائتي صفحة، كما بالنظر إلى أشواطه الإضافية المتمثلة في الهوامش الشعرية. يوظّف ياسين عدنان بنجاح ثقافته الفنية في بناء الكثير من نصوصه. وكأنه بذلك يُمَغْنِطُها فتجذب، لا القراء فقط، وإنما المبدعين أيضاً. فقصيدته «الطريق إلى عام 2000» مَسْرَحَتْ ترجمتها الفرنسية المخرجة الإيطالية لورا فيلياني. الفنانة لطيفة أحرار بدورها اشتغلت على الطبعة الثالثة من «رصيف القيامة» فحوّلتها إلى مسرحية «كفر ناعوم» التي أسالت مداداً كثيراً وكادت تسيل دماً أكثر. أما الطبعة صفر من «دفتر العابر» فقد كانت موضوع معرض تشكيلي أقامه الفنان الفرنسي إيتيان إيفير بمراكش سنة 2007. وحدهن فتيات «مانيكان» قليلات الحظ. فهن لم يصادفن مَنْ يحوّلهن إلى راقصات باليه، فظلت رشاقتهن طيّ الكتاب. كثير من الذين كتبوا عن الأمكنة فعلوا ذلك بأقلام لها شكل معول أو مبضع أو منظار… أما ياسين عدنان فقد كتب بالفرشاة والإزميل، فجاء «دفتر العابر» معرضاً حيث اللوحة توأم المنحوتة، وقسمات هذه بألوان تلك. لقد كان أسلافنا، الذين عاشوا قبل أن تتدلى المصابيح من السقوف، يجلسون القرفصاء ليخطّوا مؤلفاتهم. ولعلهم استلهموا القناديل والشموع، التي كانوا يكتبون على نورها، في إضاءة الصفحات من تحت. ياسين حذا حذوهم حين زوّد «دفتر العابر» بمصابيح أرضية. لذلك نجد أسفل عديد من الصفحات هوامش غاية في الشعر، وأخرى لا مناص منها لإضاءة المتن. يحلو لي أن أشبِّه الحيوات بالقمصان، فأكثرها بمربعات وخطوط تذكر بالأقفاص والسجون و»استعمالات الزمن». وكثير من الشعراء وجدوا أنفسهم يرتدونها على مضض. أما ياسين عدنان فشاعر يرتدي حياة زرقاء وبلا أزرار، ومن أحد جيوبها أخرج هذه المرة «دفتر العابر». * كاتب وناقد مغربي