لم تشهد تونس في تاريخها مأزقاً سياسياً مثل هذا الذي تمرُّ به منذ ثلاثة أسابيع على الأقل. حتى الوثيقة المؤقتة المنظمة للسلط التي تم اعتمادها بعد أن تمَّ تعليق العمل بدستور سنة 1959 لم تتوقع أزمة من هذا القبيل. فحركة النهضة التي كانت الطرف الأساسي في صياغة هذه الوثيقة، لم يدر في خاطر أيّ من قادتها بأنها ستجد نفسها في خلاف جوهري مع رئيس الحكومة الذي هو الآن نفسه أمينها العام. لقد فاجأ السيد حمادي الجبالي حركته عندما قرَّر الدعوة إلى فكّ الارتباط بين الحكومة القادمة وبين الأحزاب الحاكمة، وذلك بدعوته إلى الاعتماد فقط على حكومة كفاءات، مصغرة في حجمها، ومحدودة في مهامها، وغير متحزبة، واشترط على أيّ وزير سيعمل في هذه الحكومة بالالتزام بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة، بمن في ذلك الجبالي نفسه. رفضت الحركة هذه الصيغة، مدعومة في ذلك بعدد قليل من الأحزاب، وعللت موقفها بالقول إن المرحلة الراهنة هي سياسية بامتياز، وبالتالي فالبلاد في أشد الحاجة لحكومة حزبية قوية ومتماسكة. وانتقدت بشدة مقترح أمينها العام، إلى درجة اتهامه واتهام كل من أيده في ذلك بالانقلاب على الشرعية. وبالرغم من أن الجبالي قد استمال لصالح فكرته أطرافاً عديدة مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، واتحاد رجال الأعمال، وعدد من الأحزاب السياسية، إلا أن حركته التي يتولّى أمانتها العامة قد أصرَّت من خلال مكتبها التنفيذي ومجلسها للشورى على رفض مقترحه، واضعة إياه أمام اختيارين لا ثالث لهما، إما الاستجابة لقرارها بتشكيل حكومة سياسية حزبية مدعومة بكفاءات، أو أن يعلن عن استقالته. هذه الأزمة كشفت عن حالة الهشاشة التي تعاني منها الأحزاب التونسية التي أخرجتها الثورة من حالة التهميش والاضطهاد، وحمَّلتها مسؤولية إدارة البلاد. فحركة النهضة التي تتولَّى السلطة، وجدت نفسها تعاني من تداعيات خلاف حاد بينها وبين أمينها العام الذي عينته رئيساً للحكومة. وبالرغم من أن هذا الأخير قد أدرك بأن حركته بمعية حلفائها لم تنجح حتى الآن في قيادة البلاد بشكل سليم وفعَّال، وأن من مصلحتها أن تبتعد عن الحكم وتتفرَّغ لمراجعة خططها، وتعجل بصياغة الدستور، وتتهيأ لخوض الانتخابات القادمة، فإن رئيسها الشيخ راشد الغنوشي يصرُّ على بقائها في الحكومة، ويعلن أمام تجمِّع من أنصارها، بأن النهضة لن تتخلَّى عن السلطة. هذا الأمر دفع بنائبه الشيخ عبد الفتاح مورو إلى الخروج عن تحفظه، وأن يطالب في تصريح لصحيفة « ماريان « الفرنسية الغنوشي بالتنحي» حتى يمكن إقامة السلم الاجتماعي في تونس «، متهماّ إياه بكونه « يسيِّر الحركة وكأنها شأن عائلي «. كما اعتبر أن ثقافة الرجل الأول في الحركة والمحيطين به هي « ثقافة أحادية في بلد يميّزه التعدد الثقافي». وأضاف أنه طلب من الغنوشي عقد مؤتمر استثنائي لتغيير القيادة الحالية التي حسب رأيه « ستقود البلاد إلى الكارثة «. كان لهذه التصريحات المفاجئة تداعيات خطيرة داخل الحركة، وهو ما دفع بالشيخ مورو إلى محاولة امتصاصها بالقول إن ما عبَّر عنه قد أخرج من سياقه، وإن كان السيد سمير ديلو وزير حقوق الإنسان، وهو أحد وزراء حركة النهضة يعتبر تصريحات مورو « صريحة وجريئة «. لكن رغم ذلك، فقد خلقت هذه التصريحات أجواء محتقنة داخل الحركة، وإن لم تبلغ درجة الانشقاق، حيث أكد الغنوشي في خطاب حماسي له أن الذين يراهنون على تقسيم الحركة هم واهمون. واعتبر النهضة اليوم هي بمثابة « العمود الفقري للبلاد «. أما حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، فهو يمرُّ بحالة تفكك سريع، بعد أن قدَّم أمينه العام المحامي محمد عبو مع عدد من المسؤولين استقالتهم من هذا الحزب المشارك في الحكومة والذي أسسه د.منصف المرزوقي الرئيس المؤقت للبلاد. حصل ذلك نتيجة الخلافات الحادة التي تعصف بهذا الحزب منذ أشهر حول كيفية التعامل مع حركة النهضة الشريك الأساسي في السلطة. كما أعلن عبو عن نيته في تأسيس حزب جديد. وقد سبق أن انقسم الحزب إلى شطرين، وتأسس على أنقاضه حزب آخر أطلق عليه مؤسسوه تسمية «حركة وفاء «. أما الحزب الجمهوري المعارض، الذي حاولت حركة النهضة إقناع قيادته بضرورة الانخراط في الحكومة، إلا أنه في آخر لحظة مالت الأغلبية داخله إلى موقف عدم المشاركة، مع الاستعداد لدعم حكومة الجبالي القادمة في حال تنازلت حركة النهضة عن وزارات السيادة، وقامت بحل رابطات حماية الثورة المتهمة بممارسة العنف. كل ذلك أثّر على مكانة الأحزاب لدى الرأي العام التونسي، بعد أن راهن عليها كثيراً على إثر سقوط نظام بن علي، واختفائه نهائياً من المشهد السياسي. وهو ما يفسر ازدياد نسبة الذين قرروا الإحجام عن المشاركة في الانتخابات القادمة، والذين أصبحوا في حدود 54 بالمائة مقابل نسبة 50.5 بالمائة لمن لم يصوّتوا في 23 أكتوبر 2011 . وما يخشى، إذا ما استمرت حالة التجاذب والدوران في حلقة مفرغة، أن تصبح الأحزاب السياسية جزءاً من المشكل، بعد أن كانت جزءاً من الحل.