في السنوات الأخيرة يمكن رصد عدد كبير من الأخبار التي تم نفيها في مجتمعنا، فلا يكاد يمر أسبوع أو أكثر إلا وهناك خبر تم تداوله لعدة أيام وبعدها تم نفيه، وقد لا يُتاح لكثيرين الاطلاع على هذا النفي، خاصة أن الخبر الأصلي يظل موجوداً في الإنترنت، وبعضها يكون صُنعت منه تحليلات واستنتاجات منشورة قبل النفي وبعده! ولو وضعت إحدى الصحف مادة أسبوعية تحت هذا العنوان فإنه سيكون من أهم المواد لكثير من القراء والكتاب والباحثين. مشكلة الأخبار المنفية لا علاقة لها بقضية الإشاعات والشكوى التقليدية منها. المشكلة هنا مع أخبار منشورة ثم يتم نفيها لاحقاً، فالإشاعة مع أن البعض قد يتوهم بأن الإعلام الجديد ساعد على سرعة انتشارها، فالواقع أن هذا الإعلام هو الأقدر على دفنها خلال ساعات قليلة، وهو ما حدث مع كثير منها.. ولهذا أصبحت الإشاعة تولد وتموت خلال فترة قصيرة، وقد كانت الإشاعات في مراحل سابقة تظل موجودة لزمن طويل في المجتمع. هذا التصحيح قد لا يحدث بالكفاءة نفسها بالنسبة لكثير من المعلومات المعرفية التي تنتشر دون أن تصحح في حالات عديدة، كما حدث من خلط لبعض المفاهيم العلمية في الفيزياء خلال قفزة فيلكس قبل أشهر. مع انتشار هذه الظاهرة أصبح كثير من الأخبار في أي لحظة عُرضة للنفي بلا مقدمات وببرود من بعض الجهات دون شرح وتوضيح لنوعية الخطأ في الخبر، يحدث هذا عادة مع الأخبار التي يكون حولها جدل وسجال كبير. المسألة تجاوزت السؤال عن مصداقية وسائل الإعلام والصحف، بعد أن تحولت لدى بعض الجهات إلى وسيلة هروب من مسؤولية الخبر، وإذا كانت هناك معايير صحفية للخبر يعرفها أي صحفي مبتدئ، فإن مشكلة النفي أصبحت تمارس بأسلوب عام وغامض، حيث لا تشير هذه الجهات إلى الجهة الإعلامية التي تورطت في نشره ابتداءً، حيث يأتي خبر النفي بمثل هذه العبارات «نفي ما تردد في بعض القنوات الفضائية وعدد من وسائل الإعلام ومواقع التواصل…»، مع أن الخبر في حالات كثيرة مصدره محدد، والجهات الإعلامية الأخرى نقلت عنه. وتستعمل هذه الجهات عادة تعبيرات عامة للنفي من نوع «ليست دقيقة» «ومعلومات خاطئة» دون تحديد.. لأن هذا يخلصها من مشكلات الخبر بأقل الأضرار، ويبدو أن عدوى النفي الغامض انتقلت حتى للسفير الصيني في الرياض قبل أيام، الذي نشرت صحيفة سبق الإلكترونية نفيه ما تم تداوله من فسخ عقد بناء مائتي مبنى مدرسي في المملكة، المبرم في عام 2009 بين الحكومة السعودية والشركات الصينية، موضحاً أن المتداول «غير دقيق»! تتزايد الظاهرة في السنوات الأخيرة لأسباب ومتغيرات كثيرة في المجتمع والإعلام. يدرك اليوم كثير من الجمهور ويميز بين مصادر الأخبار من صحف وقنوات فضائية ووكالات أنباء، ويقيّم مصداقية أخبار الصحف الإلكترونية، والشخصيات الاعتبارية عبر تغريداتهم التويترية، فكثير من هذه الجهات الإعلامية لا ترغب في التضحية بمصداقيتها من أجل خبر يمكن الاستغناء عنه. لكن مع انتشار الصحف الإلكترونية والحضور القوي للإعلام الجديد فقد أصبحت السرعة ومحاولات الانفراد بأخبار خاصة تضغط على مراسلي الصحف، فأصبح بعضهم يلتقط أخباره من تجوله في الإنترنت وليس من أرض الواقع. إشكالية الإعلام الجديد أنه أصبح يحلل ويعلق بكثافة على أي خبر مثير ولافت خلال ساعات.. عبر هاشتقات خاصة، فلا ينتهي اليوم إلا ويكون الخبر قد استُهلك تعليقاً وسخرية، وشكّل نفسية الرأي العام. عملياً يصعب على الصحف التدقيق المبالغ فيه على كل خبر من مصادرها، لكن أيضاً يجب عليها أن تتعامل بمسؤولية وتحاسب مراسليها بصرامة، وتحترم قرّاءها، فتشير إلى الأخبار التي ثبت عدم صحتها وتعلق عليها. تلجأ الصحف لدينا في الغالب إلى أسلوب يُضعف من مصداقية كثير من أخبارها، على طريقة صرّح مصدر مسؤول، أو تشير مصادر دون ذكر اسم صريح لأشخاص. (ميلفن مينتشر) يرى أنه عندما تستخدم نسبة مثل «مسؤول في البيت الأبيض» أو «مصادر مسؤولة» أو «مسوؤل عالي المستوى» بدلاً من الاسم الصريح للمصدر، فإن الثقة لن تتولد لدى القارئ، ويرى أن نسبة هذه المعلومات لمصدر ما لا يعني بالضرورة أن هذه المعلومات صادقة وحقيقية. كل ما يقصده المخبرون من نسبة هذه المعلومات إلى مصادرها هو نزع المسؤولية عن كاهلهم، ويرى أنه يصعب عملياً التأكد من صحة كلام كل مصدر.. وإلا فإن معظم القصص الإخبارية لن تُكتب إطلاقاً. وقد ظلت رواية المصدر وليس رواية المخبر هي الأساس الذي تقوم عليه الأخبار في رأيه، وكان ضرورياً نسبة كل واقعة إلى مصدرها، حيث فرضت وكالات الأنباء هذا الشرط على مخبريها. ويروي قصة مراسل «الأسوشيتدبرس» عندما ذهب لتغطية حريق كبير في أحد الفنادق، وقد أشار وهو يتصل من الموقع إلى وجود رياح وأمطار غزيرة وأنه موجود في الموقع.. قال له مكتب الوكالة هذا لا يكفي لابد من نسبة هذه المعلومات إلى مصدر.. وفعلاً أخذ تصريحاً من رئيس فريق الإطفاء لينشر الخبر على لسانه! بعد سنوات أصبحت لدينا قائمة طويلة من الأخبار المنفية التي كُتب عنها كثير من المقالات وعلق عليها كتّاب مشاهير. هناك مسؤولية أخلاقية على الكاتب، فيجب أن يعلق على الخبر الذي كتب عنه بعد النفي ويقول رأيه احتراماً لقرّائه. من أكثر الجهات الحكومية التي تأتي أخبارها على شكل نفي هي «الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» لأسباب عديدة تتعلق بظروفها وطبيعة عملها في المجتمع، ومن آخرها خبر نفى المتحدث الرسمي باسمها ما تم تداوله من أن 59% من الشباب السعودي يمارسون سلوكيات محرمة ومكروهة بحسب دراسة أسندت لمركز البحوث والدراسات في الهيئة، وهو نفي غير واضح بالنسبة لي، ومؤخراً بدأت تظهر أخبار عن المحاكم يتم نفيها لاحقاً من وزارة العدل.. لكن بعد أن تسير بها ركبان القنوات الإعلامية. ومع ظاهرة النفي الدبلوماسي أخذ بعض المغردين الذين يتورّطون في تغريدات تثير هجوماً عليهم، بالقول بأن حسابهم مخترَق، ويأتي عادة متأخراً بعد الجدل حول ما كتبه. تبدو مشكلة أي نفي متأثر بردود الأفعال أنه يفقد مصداقيته، لأن المجتمع يستحضر في هذه الحالة مقولة «ما فيه دخان من دون نار»!