لم يكن الربيع العربي هو من أسمعنا في العالم العربي مفهوم «التعددية»، فقد أخذ هذا المفهوم يتردد ويشيع -عالمياً- في ضوء شيوع العولمة وهيمنة القطب الواحد وتقارب العالم بفعل تقدم شبكة الاتصالات وتقنياتها. و-قُطْرِياً- بعد انكشاف أقنعة القومية العربية في غزو الكويت، وتفكك أو تضعضع مؤسسات الوحدة العربية مثل مجلس التعاون العربي، واتحاد المغرب العربي، وغيرهما. لكن الربيع العربي -في الدول التي اجتاحها- أضاء في مفهوم «التعددية» بريقاً سحرياً لاحتواء وتأطير الواقع الاجتماعي والفكري المنذور للصراع الأهلي والفوضى السياسية بعد انهيار الدكتاتورية والحزب الواحد. أخذ الإقرار ب «التعددية» في دول الربيع العربي، والدعوة إليها في الممارسة السياسية، والتمدح بالاتصاف بها، يتردد على ألسنة الحزبيين والنشطاء السياسيين من كل الاتجاهات. فلم يكن الإسلاميون والليبراليون والاشتراكيون والقوميون والوطنيون… إلخ -فيما بدا- دون بعضهم بعضاً في الإيمان بها. وذلك لأن «التعددية» هي -تحديداً- مسافة التجاوز والاختلاف التي تنطوي عليها رغبة الشارع بعد اجتثاث الواقع السياسي الأحادي، ومن يرفض الدكتاتورية فلن يقبلها بعد ذلك وإن اتصفت بصفات أخرى. ما يجري الآن، في مصر وتونس -مثلاً- يثبت أن «التعددية» المقصودة أعلاه، ليست شعاراً أو دعاية سياسية يمكن أن تسبق الواقع السياسي الذي يتصف بها. وليست مفهوماً مستقلاً عن جملة مفاهيم سياق فكري وتاريخي يمنحها القيمة الإيجابية. إن التعددية لا تحمل المعنى والقيمة ما لم ترتبط في تعريفها بالنظام السياسي، فهي ليست مجرد الاختلافات بين الجماعات في المجتمع، ولكنها تلك الاختلافات في إطار الدولة التي تنظِّم وتقنِّن علاقات المجتمع كله، وتقبل أو ترفض وضعاً تعددياً محدداً. اغتيال شكري بلعيد، الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين في تونس، من حيث هو اغتيال سياسي بامتياز، هو دلالة الدوغمائية والشمولية اللتين يغدو التعافي منهما وجهاً من وجوه التوطيد للتعددية والتلاقي العملي عليها. المقاطع المبثوثة في اليوتيوب وغيره من مواقع الشبكة العنكبوتية تدلِّل على أن جريمة اغتيال بلعيد مسبوقة بوعيد وتهديد من وجهة سياسية، تماماً كما هي مقاطع الفتاوى والمحاضرات لبعض الدعاة الحزبيين في مصر يدعون فيها الرئيس محمد مرسي إلى القتل لخصومه السياسيين، أو يطلقون فيها القول بإباحة قتلهم أو الوعيد لهم. ارتباط التعددية بنظام الدولة يجعل مثل هذه الممارسات جريمة في حق المجتمع كله لا في حق من توجَّه إليهم. إن «التعددية» مظهر حديث لممارسة السياسة، وهو مظهر تستحيل فيه الاختلافات الفكرية والاجتماعية إلى مجال للتصارع والتنافس لكن بواسطة السياسة، بحيث تتعايش هذه القوى المختلفة وتشارك في التأثير على القرار السياسي في مجتمعها، وتتداول السلطة عليه، وذلك في إطار سلمي تماماً قائم على الاعتراض والنقد والحوار بينها. تُرى، كم ستحتاج دول الربيع العربي من الوقت لتجَاوز ممارسة السياسة بالحرب والقتل إلى ممارستها بالسِّلم؟! وأي سياسة هذه التي يمارسها حزبيون لا يرون لغيرهم من أبناء وطنهم الحق في ممارستها؟! الحق أن تساؤلاً من هذا القبيل يبعث على الكدر.