لا يزال مسلسل التعديل الوزاري في تونس مستمرا. وفي كل مرة تصدر تصريحات من جهات رسمية تبشر التونسيين بقرب انتهاء المفاوضات بين أحزاب الائتلاف الحاكم، وتتولى تعيين مواعيد جديدة للإعلان عن الفريق الحكومي الجديد، لكن سرعان ما يطل هذا المسؤول أو ذاك ليعدل التواريخ السابقة، معلنا عن آجال جديدة. فمثلا أكد الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة بعد عودته من زيارة باكستان بأن آخر أجل للإفصاح عن فحوى التعديل هو نهاية الأسبوع الماضي، لكنه مع حلول هذا الأجل، عاد أحد مساعديه ليصرح بأن الإعلان النهائي عن ذلك سيكون بعد أيام. بل إن الغنوشي نفسه لم يستبعد التخلي نهائيا عن فكرة التعديل، وذلك بعد كل هذه الجهود التي بذلت حتى الآن من أجل التوصل إلى توافق مع بقية الأطراف. لقد جاء في تصريح له أن «التحوير الوزاري عملية إصلاحية لا تأسيسية، والمستقبل لن يتوقف من دونه». هذا التأجيل المتجدد للإعلان هو نتيجة فشل رئيس الحكومة في إقناع الشركاء الثلاثة في الحكم، بما في ذلك حركة النهضة التي ينتمي إليها، بضرورة التوصل إلى اتفاق نهائي حول توزيع الحقائب الوزارية. إذ بعد مخاض طويل لمفاوضات استمرت أسابيع على الأقل، حصل تقدم بين الشركاء، حيث قيل إن حركة النهضة قد قبلت بالتنازل عن وزارة الخارجية، كما قدمت وعوداً لشخصيات من خارج الائتلاف الحاكم بتولى بعض الحقائب، لكن الاجتماع الاستثنائي لمجلس شورى حركة النهضة، الذي عقد قبل نهاية الأسبوع الماضي، واتسم بالتوتر واستمر إلى وقت متأخر من الليل، انتهى إلى نسف الاتفاقات السابقة، وأعاد المفاوضات بين الترويكا إلى المربع الأول، حيث عادت الحركة لتتمسك بوزارة الخارجية إلى جانب وزارة العدل. نتيجة هذا الموقف، دخل كل من «حزب المؤتمر» و«حزب التكتل» الشريكين في السلطة في اجتماعات مغلقة، ولوَّحا باحتمال انسحابهما من الائتلاف الحاكم، إذا تمسكت النهضة بشروطها. وإذا ما تم هذا الانسحاب، فإنه سيفضي إلى فراغ خطير في الدولة، مما يؤدي إلى خلط كل الأوراق، لأنه سيكون من الصعب جدا البحث عن رئيس جديد يتم التوافق حوله، كما ستجد حركة النهضة نفسها في مأزق حاد، إذ عليها في حال وجودها بمفردها في السلطة أن تبحث عن شركاء جدد من داخل المجلس الوطني التأسيسي لتضمن أغلبية نسبية تسمح لها بتمرير سياساتها ومشاريعها، وإلا ستكون حكومتها مهددة في كل لحظة بالسقوط. أصبح من المؤكد أن مسألة التعديل الوزاري قد تحولت إلى أزمة حكم من جهة، كما كشفت عن وجود أزمة في صلب حركة النهضة من جهة أخرى. ففي الحالة الأولى تتعدد المؤشرات الدالة على أن صيغة الائتلاف الثلاثي قد انتهت إلى طريق مسدود. صحيح أن جميع هذه الأطراف تؤكد على تمسكها «بالنهج التشاركي في الحكم» كما ورد في بيان مجلس الشورى لحركة النهضة، لكن على الصعيد العملي تصاعدت الاتهامات المتبادلة بين هذه الأحزاب. فشريكا النهضة يتهمانها بالهيمنة والنزوع نحو التفرد، في حين ترفض النهضة ما تعتبره «ابتزازا» لها، وتهدد بسحب الثقة من رئيس الدولة، وتلمح بأن لها اختيارات أخرى من خارج الترويكا. وهو ما قد يؤدي إلى نهاية صيغة التحالف بين إسلاميين وعلمانيين، التي طالما افتخر بها الشيخ راشد الغنوشي، واعتبرها تجربة نموذجية ودليلاً على اعتدال الحركة الإسلامية التونسية. أما الوجه الآخر للأزمة فيتمثل في أن حركة النهضة، التي حرصت منذ عودتها إلى الساحة الداخلية وتوليها السلطة أن تظهر أمام الرأي العام والطبقة السياسية بمظهر الحزب المتماسك والموحد، فإذا بالخلافات تدب في صفوفها بسبب هذا التعديل الوزاري. لقد تصاعدت حدة الخلاف بين الصقور والحمائم داخل مختلف هياكل الحركة، بما في ذلك مجلس الشورى، وهو ما دفع بالمستشار السياسي لرئيس الحكومة إلى تقديم استقالته، وهي الأولى من نوعها التي يعلن عنها مسؤول نهضوي. وجاء في نص استقالته قوله بأن في مقدمة الأسباب التي دفعته إلى الانسحاب اقتناعه «بأن التعديل الوزاري لن يزيد الأوضاع إلا تأزما بعدما تحول إلى عملية محاصصة حزبية لا تعتمد على أي معقولية سوى تقليص وجود النهضة لصالح أحزاب أخرى». ويعتبر هذا المستشار من المقربين جدا من رئيس الحركة الشيخ الغنوشي. الأهم من ذلك والأكثر دلالة، هو حالة الغضب التي انتابت رئيس الحكومة حمادي الجبالي، الذي غادر أعمال مجلس الشورى قبل نهايته. ولم يعد مستبعدا أن يقدم الرجل استقالته، نتيجة اتساع الاختلاف بينه وبين الغنوشي، إلى جانب تحميله من قبل كوادر الحركة مسؤولية فشل الحكومة، وإضعاف النهضة أمام شركائها وحتى خصومها. وإذا ما حصلت هذه الاستقالة، فإن الحركة ستخسر أحد أهم كوادرها، الذي يتولى في الآن نفسه مهمة أمينها العام، وتعلم أكثر من غيره، بعد تجربة سنة، أن الحكم له خصائصه وآلياته، وأن إدارة شؤون الدولة بعقلية الحزب والجماعة ستؤدي إلى مخاطر قد تهدد الدولة التونسية. هذا ما يجري على الساحة التونسية، وهو في النهاية ليس بالبعيد عما يحصل في بلد آخر اسمه.. مصر.