تحول التعديل الوزاري في تونس إلى معضلة. أما بداية الحكاية فإنها تعود إلى حوالي أربعة أشهر مضت أو يزيد، عندما أعلن رئيس الحكومة السيد حمادي الجبالي عن نيته القيام بتحوير في حكومته. ومنذ ذلك التاريخ، والرأي العام ينتظر تنفيذ هذا القرار. أما بالنسبة للأسباب التي دعت إلى ذلك فهي عديدة، لكن أهمها هو الاعتقاد الذي ساد في مختلف الأوساط بأن أداء الحكومة بعد أكثر من مرور سنة على تشكيلها لم يرتق إلى مستوى التحديات والانتظارات. بطء وتعثر وعدم التزام بالوفاء بالوعود، وتصاعد عدم الرضا على أكثر من وزير. دافع رئيس الحكومة في البداية عن فريقه، ورفضت حركة النهضة الإقرار بأن عديداً من وزرائها فشلوا في مهامهم، وسبق لوزير الخارجية السيد رفيق بن عبدالسلام الذي ينتمي إلى هذه الحركة أن وصف الحكومة بأنها أقوى حكومة عرفتها البلاد التونسية. لكن هذا الدفاع المستميت أخذ يتراجع، حيث ارتفعت الأصوات من داخل حركة النهضة تتوالى للتأكيد على أن أداء الحكومة ضعيف جداً. وتشك في هذا السياق تيار من داخل الحركة أطلق حملة تحت شعار «اكبس» التي تعني في العامية التونسية «اضغط « وكذلك أسرع، محتجة على تعثر الحكومة. كما أخذ شريكا حركة النهضة في الحكم (حزبا المؤتمر والتكتل) يلحان على مراجعة تركيبة الحكومة، التي تمسك الحركة بأهم مفاصلها. كان التركيز بالخصوص على عدد من الوزراء، يأتي في مقدمتهم وزير الخارجية الذي تعرض لقصف مستمر منذ توليه مهمته. ولعل مصاهرته لرئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي هو الذي ألهب هذه الحملة ضده، إضافة إلى بعض المواقف التي اتخذها باسم الدبلوماسية التونسية وعدت غير موفقة. عندما ترسخ الاقتناع بضرورة التغيير، وأصبح التعديل الوزاري مطلباً لأغلب الأطراف السياسية، قرر رئيس الحكومة الشروع في إجراء محادثات مع أهم الأحزاب السياسية، وهنا اعترضته عديد من العوائق، ووجد نفسه مطالباً بتحقيق توليفة معقدة بين إرادات مختلفة ومتعارضة إلى حد التناقض. عليه أولاً الالتزام بالخطوط الحمراء التي وضعتها حركة النهضة، أي حزبه الذي ينتمي إليه والذي يتولى مسؤولية الأمانة العامة به، باعتبارها الحزب الرئيسي الحاصل على أعلى نسبة مقاعد بالمجلس التأسيسي. وبالتالي هو غير مستعد ليجد نفسه في موقع الأقلية داخل الحكومة القادمة، أو أن يسلم الأوراق الرئيسة التي بيده لخصومه أو منافسيه بدون مقابل وازن على الأقل. وفي مقدمة هذه الأوراق وزارات السيادة التي يديرها حالياً. من جهة أخرى، على رئيس الحكومة الأخذ بعين الاعتبار بعض مطالب شريكيه في الائتلاف اللذين وجها انتقادات حادة لحركة النهضة، واتهماها بالنزوع نحو السيطرة على دواليب الدولة. بل إن حزب المؤتمر بقيادة الدكتور المرزوقي، الذي يتولى رئاسة الدولة، قد هدد بالانسحاب من الترويكا إذا لم يكن التعديل جدياً ومناسباً. أما أحزاب المعارضة التي حاول السيد حمادي الجبالي استمالتها للمشاركة في حكومته الثانية، فقد تبين أن لها مطالب تتجاوز الحقائب الوزارية، وتتعلق بتعديل السياسات وتوجهات الحكومة في عدد من القطاعات الأساسية. يضاف إلى ذلك أن التعديل الوزاري يتنزل في سياق سياسي صعب مرتبط عضوياً بالانتخابات البرلمانية والرئاسية التي يفترض أن تتم قبل نهاية السنة الجارية. ولهذا سيطرت الحسابات الانتخابوية عند مختلف الأطراف. أي أن منطق الربح والخسارة هيمن في المفاوضات على الجوانب الأخرى، بما في ذلك المصالح العليا للبلاد. كانت النتيجة أن وجد رئيس الحكومة نفسه أمام معادلة صعبة، ما جعله يعجز عن التوفيق بين جميع الأطراف، ويقرر في النهاية تأجيل الإعلان عن التعديل مرة أخرى، واللجوء إلى المجلس الوطني التأسيسي ليتولى البت في قائمة الوزراء الذين سيتم تعيينهم. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن التحويرات الوزارية في ظل الأنظمة الديمقراطية، أو تلك التي في طريقها لتصبح ديمقراطية، تختلف كلياً عن الأنظمة الاستبدادية القائمة على الحكم الفردي. الحاكم بأمره ليس ملزماً باستشارة هذا الطرف أو ذاك. فالرئيس بن علي كان يعين وزراءه دون أخذ رأيهم أحياناً. كما أن بعض الوزراء علموا من الراديو أو التليفزيون خبر إقالتهم. الآن تغيرت المعادلة وطرق العمل. وهذا في حد ذاته مؤشر إيجابي. لكن من جهة أخرى، هذا التردد الذي طال كل هذه الفترة أثر سلبياً على المواطنين، وجعلهم يصفونه تهكماً بكونه قد أصبح أكثر تعقيداً من قضية الشرق الأوسط. مع العلم بأن التعديل الوزاري لن يكون المفتاح السحري الذي سيغير الأوضاع رأساً على عقب. أي يمكن أن يخرج وزراء من الحكومة ويستبدلون بآخرين من دون أن يتحسن أداء الحكومة. التحوير الوزاري وسيلة وليس غاية، وهو أسلوب يتم اللجوء إليه لإعطاء دفعة جديدة للعمل الحكومي. وهو احتمال مرهون بنوعية المسؤولين الجدد، وقدراتهم ومدى خبرتهم في المجالات التي سيتولون إدارتها. هذا الأمر يقتضي إعطاء الأولوية لأصحاب الخبرة وتقديمهم على أصحاب الولاءات الحزبية. أي أن رئيس الحكومة التونسية قد وجد نفسه مخيراً بين سيناريوهين، إما التوصل إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية واسعة، يتحمل فيها الجميع مسؤولية إنجاح ما تبقى من المسار الانتقالي. أو التوجه نحو الإعلان عن حكومة تسيير أعمال ترتكز على تكنوقراط، وتتولى معالجة الملفات العالقة. وهنا على الأحزاب أن تدعم دعم مثل هذه الحكومة، وأن تتفرغ لإعادة ترتيب بيتها استعداداً لخوض الانتخابات القادمة، التي ستكون مفصلية ومحددة لمستقبل التجربة التونسية.