كان صراخاً مدوياً يائساً .. “حصان .. مملكتي مقابل حصاااان”. وسقط ريتشارد. وشهدتُ سقوط الطاغية. نعم. وكان هذه المرة مستبدلاً تاجه المرصع بكوفية وعقال مسبوك بالذهب. هو نفسه. يملك الروح نفسها والملامح ذاتها. ذلك الشيطان المستبد. حضرتُ “ريتشارد الثالث” بالنسخة العربية لشكسبير قبل أكثر من ثلاث سنوات، على مسرح “بيليفيو” في العاصمة أمستردام. وكنت يومها، بطبيعة الحال، مهيئة نفسياً مع أحداث عشنا تفاصيلها مقدماً مع سقوط صدام حسين، ومشنقة العيد. لم أتصور السيناريو. ولم يكن فينا من يتصور ما حدث. كنا فاغري الأفواه. ولم يكن لأحد أن يتخيل أن يكون الوضع كما سقوط أحجار الدومينو. مثل الذي جاء به عام العجائب 2011. حاكم منفي، وآخر في السجن، وثالث قتل في الصحراء، ورابع احترق، وخامس ينتظر .. فودعنا العام المنصرم ونحن نعاني التخمة تماماً. “يا بومة الموت الرهيبة، يا مبعث الرعب للأمة وسوط عذابها المخيف، إن أجل ظلمك ليدنو”، على لسان الملك هنري السادس لشكسبير. ولأشاهد النسخة العربية من مسرحية “ريتشارد الثالث”، حصلتُ على تذكرة مكنتني من الجلوس في الصف الأول من مخرجها الكويتي الرائع سليمان البسام. أقول ذلك لأن الموقع جعلني أقرأ الأحداث المعربة بشكل عميق مباشرة مع الأبطال على الخشبة. وأنصت جيداً كما فعلتُ تماماً مع النسخة الإنجليزية الأصلية على مسرح شكسبير في إنجلترا. هي النسخة العربية الأولى التي عرضت على مسارح العالم. إذاً فمعركة العالم العربي التي يعيشها الآن هي نفسها المعركة على السلطة في إنجلترا في القرن ال17، التي عاشتها أوروبا قبل عصر النهضة. التاريخ يسخر منا ويدلق لسانه الآن. فقد ألقى بذرته الخالدة من الحدث، وأخذ يتابعنا كمشاهد مكرورة. وصرخة الحاكم الأخيرة قادمة من محطة عميقة في نفسه الموغلة في الغطرسة. هو الذي يرغب في النهاية في استبدال مملكته كلها بمجرد حصان، فقط لتكون نهايته على حصان. لكن النسخة العربية جعلت من الحصان “سرجاً” فقط. يحاول الطاغية النجاة بعد القلق الذي يهدد عرشه، وبعد العنف السياسي والدموية وشهوة الديكتاتورية. دراما خالدة، بل نبوءة عرّافين. هي شبيهة بتراجيديات “هاملت، عطيل، ماكبث، الملك لير” السياسية، إلا أنها “ريتشارد الثالث” الأكثر تناسلاً في التاريخ. إنها وثيقة تاريخية لا تموت. لاسيما في العالم العربي الذي يعيش تحولاته الأولى بين دوامات عدة. ديكتاتوريات من ورق تعاني لوثة السادية والنرجسية. تخلف وراءها فاجعة، بل تركة أرهقت كاهل شعوبها. “واأسفاه على إنجلترا؛ لأن الإنسان فيها يعيش كبحّار مخمور على رأس سارية سفينة، تستطيع أي هزة أن ترمي به في أحشاء البحر، كلب من كلاب الجحيم، يطاردنا جميعاً حتى الموت، كلب نمت أنيابه قبل أن تتفتح عيناه، ليمزق الحملان، ويلعق دماءها البريئة، ويشوه ما صنعه الله ويدنسه!”.. “أيها السفاح ريتشارد .. أي إنجلترا التعسة، إنني أتنبأ لكما بأشق مصير شهدته الأيام!”. هذه كانت آخر كلمات اللورد “هيستنجز” قبل أن يلقى حتفه على يدي صديقه الطاغية ريتشارد. وكانت المصائر هي نفسها تماماً. العام 2011 حمل إلينا دروساً كثيرة. فلم تعد الشعوب هي نفسها. لقد علمتهم الثورات الركض وراء حقوقهم. باتت الشعوب أكثر إقداماً على تشريح قضاياهم والوعي بها. رغبوا في حياة يستحقونها، بعد أعاصير قمع الأنظمة وغطرسة زبانيتها. وجاء الرئيس الأول بعد الثورات. رئيس ثورة الياسمين التونسية. فحملت إلى العرب مصباح الثورات الأول؛ حقوقي وطبيب أعصاب. نعم، إنه طبيب أعصاب لمن تلفت أعصابهم وضجروا الحياة. لكنهم أرادوا الحياة! وأرادوا الحرية والديمقراطية. ومن المثير أن يعتقد بعض خبراء الغرب أن الشعوب العربية غير جاهزة حتى الآن لممارستها، ويقولون إنه ينبغي أولاً تثقيفها وتعليمها ورفع مستواها المعيشي، حتى إذا ما حان الانتخاب، فلن تعطي أصواتها متأثرة فقط بعاطفة دينية أو اعتبارات أخرى. يقول الميكافيلي ريتشارد وهو يمضغ ديكتاتوريته “وكل لسان يحكي قصة، وكل قصة تنطق بأنني شرير! الخيانة، الخيانة! في أبشع صورها، والقتل، القتل الأثيم في أقسى ألوانه. جرائم مختلفة في صور متعددة، تزدحم كلها في ساحة القضاء وتصيح مذنب مذنب! ليس لي إلا اليأس .. فما من أحد يحبني. وإذا متُّ فلن يأسى أحد لموتي، أجل ولم يأسون، وأنا نفسي لا آسى على نفسي!”