«نحن المهزومون، من حقكم أن تتجاهلونا، نحن لا نريد هداياكم ولا قروضكم ومساعداتكم ولا حتى شفقتكم... نحن المهزومون حتى لو انتصرنا... اسمي ليس مارغريت لكن تاريخنا مبهم، حتى المنتصرون منا غيروا أسماءهم...». انها جزء من مقدمة «ريتشارد الثالث - مأساة معربة»، هذه المقدمة أعلنت منذ اللحظة الأولى تعريب المسرحية في المعنى الثقافي السياسي التاريخي. لكن «مارغريت» وهي واحدة من الشخصيات «الأصلية» في مسرحية شكسبير والتي تظهر في بداية المسرحية، أعلنت منذ اللحظة الأولى أنها ليست مارغريت، فالأسماء لم يتم تبديلها في المسرحية، على رغم تبديل الملابس والمناخ العام والموسيقى وحتى الكثير من السيناريو والاسقاطات التاريخية السياسية العربية، ولم يكن ذلك وفاء للنص الأصلي وإنما لأن مخرج المسرحية الكويتي سليمان البسام، ربما أراد القول إنه ومنذ زمن كتابة تلك المسرحية (1591)، ما زلنا مهزومين، وليس في إمكاننا أن نفرض أسماءنا البديلة في هذه المسرحية المعرّبة لهذا السبب، فالمنتصرون وحدهم يفرضون أسماءهم. وبعد أن انطلقت المسرحية من مدينة ستراتفورد، بتكليف رسمي من الفرقة الملكية الشكسبيرية في بريطانيا، على العديد من الدول الاوروبية والصين وسورية ضمن برنامج «دمشق عاصمة ثقافية عربية» وأخيراً مسرح مركز كيندي الثقافي في واشنطن، فإنها، وما عدا الكويت البلد الأم للمخرج، عرضت للمرة الأولى في الخليج، في البيئة المفترضة للمسرحية في نسختها المعرّبة، وقدمت ثلاثة عروض في الإمارات، واحداً في مدينة العين وتحديداً في قلعة الجاهلي التراثية، وعرضين آخرين في مسرح المركز الثقافي في أبو ظبي، بدعوة من «هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث». النسخة المعرّبة تفترض بيئة خليجية تاركة التأويل مفتوحاً على الجهة المقصودة، فبقدر ما تبدو المسرحية وكأنها إسقاط «صدامي» على الرواية الشكسبيرية، لا سيما في المشاهد التي تتحدث عن «الحرب على الإرهاب» ودور «السفارة الأميركية» مع عرض مشاهد من حرب العراق في الخلفية، إلا أنها تبقي الإبهام مقصوداً في أماكن أخرى لتفلش الغطاء أوسع على الخليج في شكل عام، من خلال الكثير من الإيحاءات في اللباس والموسيقى والقصص... وفي هذا المعنى فإن عرضها في الخليج هو إنجاز بذاته يحسب لمنظمه، تبعاً للجرأة في التلميحات السياسية وحتى في المشاهد التي وإن تمّ ضبطها لتراعي المعيار الخليجي، يمكن اعتبارها جريئة كمشهدي العاهرة ومحاولة استمالة ريتشارد الثالث ل «آن». وظف المخرج كل مفردات هذا الزمن السياسية من دون أن يخرج عن أحداث النص الأساسية التي تحكي الصراع الدموي على السلطة، فأمير غلوكستير (يصبح الملك ريتشارد الثالث والذي يلعب دوره في هذه المسرحية الفنان السوري القدير فايز قزق) يتآمر وينتظر موت أخيه، ثم يتآمر ليقتل أبني أخيه. ثم يدخل في حرب مدبرة أيضاً ليقتل فوق حصانه وحيداً... أنها سلسلة المكائد والانقلابات والقتل والانتقام والدم في نظام استبدادي أحادي حيث الدائرة مقفلة، وحيث نهم السلطة والدم والظلم الذي يعاود إنتاج الظلم، دورة لا تنتهي ولا تبرئ أحداً ف «مارغريت» (تلعب دورها الممثلة السورية أمل عمران) التي قتل زوجها وأطفالها في حرب على السلطة (من دون ذكر تفاصيل لأن ذلك ليس الا جزءاً من دورة كاملة تقدم أحداث المسرحية) باتت كاللعنة التي تشرف على زمن المسرحية كله. تظهر في أولها وفي نهايتها وتظهر في خلفية كل الأحداث الدموية، تغذي الحقد حيناً وتهيئ للقتل وتحتفل به... شيء ما يشبه كل تلك العبثية التي حكمت الحرب الطائفية في العراق مثلاً، حيث الظلم يولد الظلم والانتقام والدم. كأن ذلك النص الشكسبيري لا يمكن أن ينطبق على مجتمع سياسي معاصر كانطباقه على المجتمع العربي. فتلك الميكانيكية السياسية التي حكمت اوروبا في القرن الخامس عشر، ما زالت تحكم مجتمعاتنا، وكأن شيئاً لم يتغير. وما زالت أحداث هذا النص الأصلية قادرة على توليد نفسها في هذا المجتمع، وما زال النظام نفسه قائماً، مع كل نزاعاته، وان كان يغذيها في النص الاصلي «وصوليون»، فهنا يغذيها «مستشار» و «سفارة» تحتجز الأميرين. لكن الملك ريتشارد الثالث حاك مع مستشاره الحيلة فخطف ولدي اخيه وتم احتجازهما في السفارة الاميركية ثم قتلهما. لكنّ الملك يعود في هذه المسرحية ليقتل مرة أخرى على مرأى من السفارة نفسها. فالمشهد الأخير يحيل كثيراً على سقوط الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. ففي لباسه العسكري الذي يشبه كثيراً اللباس العسكري العراقي بألوانه الترابية، يمتطي ريتشارد الثالث حصانه (الذي أحضرته مارغريت) وحيداً ويلوح بسيفه أو ب «بندقيته» وكأنه يقاتل الهواء، صارخاً «حصان، حصان، مملكتي من اجل حصان». لكنّ الحصان لا يشبه الحصان هنا، أنه أشبه ببقايا حصان من دون رأس، بل هو أشبه بحال وطن قال ريتشارد الثالث في المسرحية المعرّبة إنه «سيركبه». وعلى وقع سقوطه من فوق الحصان، يمسك السفير بيد الملكة اليزابيت (تؤدي دورها الممثلة المسرحية كارول عبود) التي قتل ريتشارد الثالث ولديها، يمسك عنوة بيدها ويرفع بها عالياً معلناً بدء عصر الديموقراطية برمزية واضحة الرسالة. أما ما كان خاصاً جداً في هذه المسرحية، فهو إدخال كل مفردات العصر فيها، لتصبح تلك الحقبة السياسية من القرن السادس عشر حقيقية اليوم. فقد ادخل المخرج مثلاً الهاتف المحمول وجعل موسيقى «العراّب» رنته، وادخل التلفزيون لا بل الفضائية تحديداً. وقد رافقت المسرحية فرقة موسيقية افترشت يسار المسرح، وقدمت تلوينات خليجية نقلت اهازيج الحزن والفرح.