عندما بدأت في كتابة هذه المقالة احترت في عنوانها، في أول الأمر كتبت هل المطر مفسد؟ وعدلت مرة أخرى لأكتب المطر يكشف الفساد.. ومرة ثالثة رأيت من اللائق أن أذكر بنعمة الله فالمطر من نعم الله المباركة، وأنه كشف كثيرا من الفساد المالي المرتبط بالمشاريع الهندسية في تخطيط المدن وتطويرها، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه: (وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاء مَاء مُبَارَكًا)، هذا المخلوق الجميل الذي اسمه المطر، ينزله الله بركة للأرض وما فيها ومن فيها، حتى في أحلك الظروف، وفي أسوأ الحالات التي يهطل فيها بغزارة، وأُمرنا أن ندعو بأن يجعلها الله على الآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر، ويجب أن نشكر الله على نعمة المطر، فهو ماء السحاب الذي ينزل على الأرض وهي هامدة، فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج، حيث ينبت الزرع، ويمتلئ الضرع، ويعيش الناس حياة الرخاء الزراعي، وترعى مواشيهم، وتأكل من خير الثمرات. لكن المواسم الممطرة في بلادي التي يتحراها أهل القرى والهجر ليزرعوا ويحرثوا، ويعلفوا لأنعامهم، هذه المواسم أصبحت كارثة على المدن الكبيرة التي تحظى أماناتها بميزانيات ضخمة جدا، يتجاوز بعضها المليار من الريالات، وهذه المدن مع الأسف ترزح تحت وطأة فساد التخطيط والتنظيم، التي تنكشف عوراتها عند هطول المطر بغزارة، ويفضح بنيتها التحتية الضعيفة والهشة، بدءا بمخططات تصريف الأمطار والسيول، وقبلها مخططات البناء في مجاري السيول والأمطار، والأحياء العشوائية التي مازالت محل الاهتمام بها والدراسات عليها، ومحاولة فك الاختناقات السكانية، لكن مع الأسف حتى الآن لدينا حالات شاهدة على تردي هذه المخططات، فقد ذهب كثير من الناس ضحايا لأعمال غير مسؤولة، ممن نحسبهم مسؤولين وهم بعيدون عن المسؤولية. كم هو مؤلم منظر أولئك الذين نشاهدهم في مقاطع اليوتيوب على شبكة الإنترنت التي تضج بصرخات المنكوبين الذين ذهبوا ضحايا لسوء التخطيط، وفساد القيم، وتدني المستوى الأخلاقي عند المعنيين بتخطيط هذه المدن، فمازالت كارثة سيول جدة وأحداثها تجترها الذاكرة كلما تجمع السحاب، وغردت الغيمات، وبشرت بالمطر، ويتكرر المشهد غير مرة في مدن أخرى، حتى وإن لم تكن بتلك الصورة المفجعة التي حصلت في جدة وتحصل الآن في تبوك، لكنها مؤشر خطير يجب التنبه له في المواسم الممطرة مستقبلا. وجاءت كارثة أمطار تبوك شاهد عيان جديد، لما تعانيه البلاد من الفساد المستشري في جسدها، الذي بلغ العظم في كثير من المواقع، وما زلنا ننتظر جهودا أكبر من هيئة مكافحة الفساد لتعري كل المفسدين، ومازالت الكوارث تتوالى، والمدن تتساقط واحدة تلو الأخرى، وما هذا إلا أمر أراده الله بواسطة المطر ليكشف المفسدين في الأرض. المطر الذي نحبه، وفيه حياة الأرض بكل ما فيها، لأنّ الماء حياة الخلق وصلاح الأرض للحرث، ومع فقده هلاك الإنسان والحيوان والنبات ويفسد أمر الحياة في البر والبحر، هذا المطر أصبح يمثل خطرا على المدن الكبيرة، والرئيسة، والسبب بسيط جدا، هو أننا لم نستثمر هذه الثروات الاستثمار الصحيح والأمثل، نحن دولة بترولية، تضخ مليارات الريالات للتنمية، ولا ندري أين تذهب هذه الميزانيات الضخمة؟ فالكوارث الطبيعية التي تحل بمدننا تتزايد كل موسم، وتتعرى كل الوزارات المعنية بتعمير المدن، وتكشف سوء التخطيط، وترينا بجلاء ضعف البنية التحتية هنا وهناك، فأين الذين يتفكرون في خلق الله؟ وأين الذين يعملون العقل في مخلوقاته؟ وأين الذين يعمرون الأرض هذا الإعمار الذي من أجله أنزل الله آدم؟ فالله تعالى عندما خلق هذا الكون وأمر آدم بإعمار الأرض لم يكن تكليفه سدى، وأيضا لم يتركه بلا هدى، بل أعطاه كل المقومات، ووفر له كل السبل التي يستطيع بها ومعها العمل فيها، وطالبه بالصدق والإخلاص في القول والعمل، ومكنه من طاقات الأرض وخيراتها، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، كل ذلك من أجل الإنسان ليعمر الأرض بما يرضي الله، ولكن مع الأسف كل هذه الإمكانات الهائلة تذهب أدراج الرياح، وتخور قوتها عند أول هطول للمطر، فيتضرر العباد بسبب عدم طاعتهم لله في تنفيذ أوامره بتعمير الأرض كما يجب أن يعمروها، لأن المفسدين عمدوا إلى عمار مصالحهم الشخصية على حساب الأرض وأهل الأرض. من هنا، من منبر الشرق، أوجه رسالة للمجتمع، فكل إنسان يستطيع أن يشغل نفسه بأمر إعمار الأرض كما هو اهتمامهم بالعبادات، فمتى يكون لدى المجتمعات اهتمام عام يصب في صالح التنمية الوطنية التي تحتاج إلى عمل متكامل في منظومة متناغمة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا؟ الدور الذي يقوم به المطر في كشف المستور، يجب استثماره جيدا، فهناك مشاريع في بلدان كثيرة مضى عليها قرون، وهي قوية ومتماسكة، وزخات الأمطار عليها كل عام ولم تتأثر، بينما مشاريعنا بالملايين ولم تكمل العام الواحد وإذا بها في حاجة إلى إعادة من جديد ومع الأسف تعاد بالترقيع لتستمر الدورة، وهكذا كل عام استنزاف للميزانيات في مشاريع ضائعة.