أدت ثورة الاتصالات بما أتاحته من سهولة امتلاك المنابر الإعلامية من قنوات تليفزيونية وإذاعات وصحف ومنتديات ومواقع تواصل اجتماعي على الشبكة العنكبوتية، إضافة إلى شبكات المجموعات في الواتس أب والإيميل ونحوها، إلى بروز وجهات أحادية: طائفية وقبليَّة ومناطقية وأسرية ودينية وثقافية… إلخ. ومن شأن هذه الوجهات الأحادية التي عززتها ثورة الاتصالات، الدفع باتجاه ما يناقض ثقافة الحوار التي تنجم الوحدة فيها عن الإقرار بالاختلاف واحترام التعدد وإتاحته، لا على فرض وجهة واحدة. وبوسع المرء أن يقرأ في ضوء ذلك نماذج إعلامية عديدة تكرس الإقصاء للمختلف وتبث الكراهية العنصرية والطائفية والمناطقية بأكثر من معنى. فكأن الوطنية والدين والعروبة والحقيقة والمعنى والقيمة… إلخ -في مثل هذه المنابر الإعلامية- في يد فئة تملك فرضها على الآخرين! الإعلام، بهذه الصفة، إعلام غبي لأنه لا يعي التعدد الذي يحيط به، فكأنه يتصوَّر أنه يملك وحْدَه حق الحديث وليس من حق الناس إلى الاستماع إليه! والأنكى من ذلك أنه إعلام خَطِر، لأنه يبذر الشقاق والكراهية والعداوات الرخيصة ويستثير إلى النقمة منه. وعلى رغم أنني ابتهجت بإقفال وزارة الثقافة والإعلام في المملكة عدداً من القنوات التليفزيونية من هذه الفصيلة غير الحوارية، فإن الإشكال هنا ليس محدوداً في هذه القنوات، وإنما هو في الثقافة نفسها التي نشأت تلك القنوات لتمثيلها والتعبير عنها. وأعتقد أن معالجة الثقافة بالتحليل لها ونقدها ليس له كبير أثر ما لم تستند تلك المعالجة على قوانين تجرِّم العنصرية والطائفية والكراهية للآخرين ليس لسبب إلا لأنهم ليسوا نحن، ومن ثم تُسَن عقوبات مدوَّنة ومعلنة للعموم. إن التقدم التقني في وسائل الإعلام والاتصال هو الذي يفرض الآن -حين ننظر إليه من زاوية الاختيار والحرية- تطوير المضامين الإعلامية لاستيعاب الاختلاف والتطبُّع بطبائع الثقافة الديمقراطية، ثقافة الحوار والمدنية. فجهاز «الريموت كونترول» في يد المشاهد أمام شاشة التليفزيون لا يتيح للقناة التي يشاهدها أن تمتلك حريته أو تمحو اختلافه، أو أن تفرض عليه ما لم يقتنع بقبوله أو ما لم يجد متعة في مشاهدته. والكاتب في الصحيفة يعرف أن القارئ -أي قارئ- يمكنه أن يعلِّق عليه إلى جانب مقاله، مفنِّداً إياه ومقنعاً القراء بزيف ما كتبه، فالكاتب هنا أو الصحيفة -مثل القناة التليفزيونية هناك- لم يعد سلطة مستبدة. العلاقة بين الإعلام وثقافة الحوار يمكن أن تكون سلبية بأن يعمل الإعلام على إضعاف المبدأ الحواري في المجتمع؛ وذلك حين يكون إعلاماً استبدادياً ينظر إلى الواقع من وجهة أحادية ضيقة رافضة للتنوع والاختلاف ونافية للتعدد. ويمكن أن تكون إيجابية فتعزِّز الحوارية في المجتمع، لأن الإعلام في هذه الحالة يعي ما ينطوي عليه المجتمع والعالم الإنساني من تنوع واختلاف ويمثِّله بطريقة موضوعية هي أدعى إلى الثقة فيه، وأجدى في إيجاد وعي يجاوز بالمجتمعات الاحتراب إلى التفاهم، والتصادم إلى التسامح. فوراء التنوع والاختلاف تكمن مشتركات وتماثلات وتنطوي وحدةٌ ما ترتفع عن كل اختلاف وتضمن التلاقي الذي يصنع لكل مجتمع كيانه الموزون حجمُه وقوّته بتنوعه في إطار الوحدة ووحدته في إطار التنوع.