يا للأزرق الصعب. يا للأزرق (المستحيل).. كم تحبه الورقة، وتحنُّ إليه، وإلى غموض اللون في لونه وغموض الليل في ليله، ليسترَ (الغامضُ) وضوحَ صراحتها الجارحة ويحرس عريها الأبيض من أقلام تُبدّل ألوانها كل يوم وكل ساعة! امتلأت الورقة بليل مختلف وفاضت عن عشقها ونامت بعد أن تنزّهت الرعدة الخفيفة في كل مواضع حقلها، غير أن القلم ظل يُدخِّنُ سهراً بليداً ويتعرق الاشمئزاز و(القرف) من نفسه.. ليس ذلك ناتجاً عن الشعور الطبيعي الذي يعقب انقضاء لذة الكتابة، وإنما كان القلم، فيما يبدو، كمن يحسّ بأن شيئاً ما في داخله ينبذه. لعله يلوم أنانيته وعدم تفكيره في مصير بناته الكلمات عندما أغوته الورقة بجنونها وأثارت فيه رغبة الكتابة، فتدفق كالينبوع بمئات القطرات. كان يحزنه أي غد أليم ينتظر بناته الكلمات: هل سيجدن مكاناً رحباً يتنفسن في أرجائه بحرية؟ أم سيذهب بعضهن ضحية لضيق الأرض المخصصة لإقامتهن وعيشهن بهدوء، حين يُشهر اختصاصي الكشف الطبي مثلاً سيف انتقائيته الخاضعة لوزن الكلمة الواحدة ومدى ثقلها، وفي هذه الحالة ربما تُلصَقُ الواحدة في الأخرى مما يعرض بعض الكلمات للطمس والتشويه، وربما يقرر مسؤول العبور أنه من غير المستحسن وصول عدد منهن إلى ميناء الساحل الآخر لاحتمال عدم لياقتهن من وجهة نظر الحراس ومزاجيتهم التي ترى ضرورة أن يتم التصدق بهن على أسماك القرش، وذلك بإلقائهن في مياه بحر الفناء. يبحث القلم بحرقة عن الإجابة الضائعة لسؤال الوجود: كيف نطاوع رغباتنا وشهواتنا ونظل أسرى، لا بل عبيداً لرعشة خفية يدفع (نسلُنا) ثمنها في النهاية جوعاً وتشريداً وسجناً وموتاً بطيئاً و(حشراً) في «الممرّ الأخير»!