عزيزي شهر يناير العظيم.. علي أن أعترف لك في البداية أنني لم أكن أعرفك. ربما أستطيع تسمية اسمك لكنني لا أعرف أي معلومة عنك ولا حتى عدد أيامك وهل هي ثلاثون أو أكثر أو أقل. فأنا كسعودي أصيل تنتهي علاقتي بالشهور الشمسية مع انتهاء درس الفصول الأربعة في المرحلة الابتدائية، ولا تعود لي علاقة بها بعد ذلك إلا في حالات نادرة جداً. أعرف أن التجار يسمونك تندراً ب»يا نايم» لأنك تشهد مرحلة ركود بعد فورة موسم التخفيضات في نهاية العام. كبار السن كذلك يعرفون أنك شهر المطر والأجواء الباردة، لكنهم لا يسمونك باسمك بل بأسماء أخرى يألفونها أكثر من اسمك الأرستقراطي الذي يصعب عليهم نطقه. كما ترى لم تكن شهراً ذا شعبية، فأنت لا تحوي مناسبات ساخنة تثير جدلاً في كل عام، كما يفعل شقيقك «فبراير» الذي يُشعل البلاد ويُشغل العباد بلونه الأحمر وعيد الحب الذي يتوسطه. ولا أنت رمز للعطاء والتضحية كما هو شقيقك الآخر «مارس» الذي يحتكر بداية الربيع وعيد الأم. كما وحسب علمي لم يخلدك الأدباء في روايات وقصائد كما فعلوا مع تواريخ وشهور أخرى. كنت قصة خاملة حتى جاء عام 2011. وكأنك قررت وقتها أن تنتفض، أن تربط اسمك بأكثر أحداث العالم سخونة وتوتراً. فجأة ودون سابق إنذار فتحت فوهات الشوارع والميادين لتقف الحناجر والصدور وجهاً لوجه أمام البنادق والمدافع، ولأول مرة جعلتني شاهداً على تاريخ حي كنت أقرأ أحداثه في الكتب والروايات، فجأة خرجت أبيات «الشابي» من الكتب وخشبات المسارح لينشدها الناس في الشارع بصوت أجش لكنه بالغ الصدق والعذوبة وهو يردد: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر منحتنا لحظات استثنائية من الأمل والثقة والإثارة، أياماً صاخبة بالدم والدموع والعرق. انفعالات لم ولن تتكرر في دفتر ذكرياتنا القصير والمملوء بالسطور المشطوبة والصفحات الممزقة. أيقظتنا على حين غفلة لتخبرنا أن صوتنا الغائب قد عاد، وأن مرضنا المزمن قابل للشفاء، وأن أطرافنا اليابسة قد بدأت تستعيد قدرتها على الحركة. لم تعد الدنيا بعد مرورك الصاخب كما كانت قبلها، ولن تعود إلى الأبد. لكنك لم تكن ودوداً تماماً، لم تمنحنا الحلم الكامل، فبمجرد رحيلك بدأت الصورة تهتز، بدأ رفاق الميدان يتقاتلون ويتبادلون التهم، بدأت نماذج غريبة من الكائنات في الظهور، خرج علينا من يبشر بالإفلاس، والرعب وأيام سود قادمة. عادت ذات الغربان الذين طردناهم لينعقوا بصوت أكثر قبحاً عن الاستقرار الذي ضيعناه والهاوية التي نسير إليها والذنب العظيم الذي ارتكبناه… عزيزي يناير.. أرجوك أكمل مهمتك الرائعة هذا العام قبل أن ترحل مجدداً وتتركنا مع عام جديد من الحيرة لا ندري بأي حال نلقاك بعده!