صورتان من بين كل الصور لا تبرحان ذاكرتي، أولاهما صورة مارلين مونرو مع آرثر ميلر. أنا من المعجبين بهذه المرأة. كانت هنا (الصورة متحركة) مذهلة بإفراط في جمالها، وشقرتها، وشبابها، وضحكاتها. وكانت متعلقة بآرثر ميلر. بدت لي مارلين هنا أجمل إمرأة في الوجود. وشعرت بسعادة هائلة بجمالها، وشبابها، وفرحها، فرحها الطبيعي، وفرحها بزوجها آرثر ميلر. هذه لقطة لا أنساها. وصورة أخرى لناديا مع زوجها (الذي كان يشغل مركزاً مهماً في مؤسسة عالمية) هي أعطتني هذه الصورة، ثم استرجعتها بعد سنوات. في هذه الصورة تظهر واقفة مع زوجها، عندما كان عمرها في منتصف العشرينات، تظهر فيها هي وزوجها واقفين مستندين على مكتبة في غرفة، وقد مالت هي إليه كطفلة تنشد حناناً. وكان هو، بطوله الفارع، ولحيته الخفيفة، ونظارته القاتمة بعض الشيء، يبدو كأب بالنسبة اليها، مع أنه لا يكبرها إلا بأربع أو خمس سنوات. وكانت هي تبدو آية في جمالها الخفر مقارنة بجمال مارلين مونرو الصاخب. كانت ناديا في صورتها هذه تورث لدي إحساساً بإشفاق هائل عليها لمجرد اتكائها على كتف زوجها، لكن مع انسحاقي أمام جمالها الملكي (لها فيزيك أرستقراطي). أنا كنت في بودابست، وهي كانت في بروكسيل. كنا نتراسل. هي تكتب بالإنكليزية، وأنا أكتب بالعربية التي تقرأها. كتبت إلي تقول: استطعت أن أوفر مالاً من مردودات الدروس الخصوصية التي أعطيها في اللغة الإنكليزية، لإستضافتك لمدة شهر في شقة محترمة جداً ينقصها التلفزيون فقط، الذي لا يهمك كثيراً. فما رأيك يا صديقي؟ أنا لست خائب الحظ في هذه الدنيا. قبل سنوات دعتني سيدة أخرى، ثرية، مع زوجها، للإقامة عندهما لمدة شهرين في شقتهما في شارع كوينزوي في لندن. وكانت تعد لي ألذ الوجبات العراقية، وأشهاها. وهناك تعرفت بصديقتها ناديا. شكرتها، وقلت لها أنا بانتظار ورقة الدعوة لأقدم الطلب على تأشيرة الدخول من القنصلية البلجيكية. وبعد أسبوع من تقديم الطلب، وصلت الموافقة (كان جوازي عراقياً). وفي موعد وصولي، لمحتها من خلف الزجاج في صالة المنتظرين في المطار، في شرفة. استقبلتني (لا أذكر بعناق، أم بلا عناق. هي مقترة على أية حال في إظهار مشاعرها). وأقلتني بسيارتها الى الشقة. - هل تحب أن نشرب قهوة في مقهى قريب؟ - بكل سرور. خرجنا من الشقة الى شارع لويزا المشجر (قالت لي إن لويزا كانت مغنية أوبرا، أو لعلها راقصة باليه، أنا نسيت). ومن شارع لويزا ذهبنا الى شارع فرعي. وهناك دخلنا مقهى تعرفها ناديا، وتعرف صاحبها أنتوان. استقبلنا، ثم قامت بتعريفنا. ثم طلبت لنا القهوة. كانت هذه زيارتي الثانية الى بلجيكا. هي تعلم أنها دعتني لأتفرغ لكتابة رواية «الأوبرا والكلب»، وهي ستكون نصف البطلة شهرزاد، أما نصفها الآخر فإبنة أسد محمد قاسم، زميلي في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في بودابست، وهذه تجيد العزف على البيانو. وقد اخترتها كنصف متمم، لهذا الغرض. أما ناديا فستكون في واقع الحال ثلاثة أرباع شهرزاد البطلة، أو كلها تقريباً، باستثناء البيانو. وهذا لا يعني أنني سأعتكف بالكامل في الشقة لإنجاز المشروع، بل سأشاهد بلجيكا ايضاً. وقد وضعت ناديا برنامجاً لذلك، حدثتني عن تفاصيله في المقهى. ولا أنكر أن مشروع روايتي كان أول محاولة لي في هذا الميدان. لذلك كنت اشعر كأنني كنت أؤدي امتحاناً لا أعرف نتائجه. لأن كتابة الرواية ليست مثل كتابة البحوث أو المواضيع الأخرى التي كنت أنجزها باقتدار. لكن التجربة كانت لذيذة (إذا استعملت لغة نابوكوف): أن أكون في ضيافة البطلة التي سأكتب عنها. وأنا، كما ذكرت في مناسبة سابقة، أفضل اختيار بطلة أعمالي القصصية من الواقع. لكن يتعين علي أن أقول إن مكان الأحداث الروائية سيكون في فيينا، وكذلك في جزيرة كريت، والمغرب. وقد اقتضاني ذلك أن أزور هذه الأماكن. وقد ذهبت الى فيينا غير مرة لكي ألم بجغرافية العمل، فدونت أسماء الحوانيت والبنايات الى جهتي الأوبرا، يميناً وشمالاً لألم بحركة البطلة من مقر سكناها الى دار الأوبرا، وما بعدها، وهو الطريق الذي سيسلكه كلب البطلة إشباعاً لفضوله. ثم يعود الى صاحبته شهرزاد مع أصحابها في الطابور أمام شباك التذاكر. كنت أحمل معي الى بروكسيل كل هذه التفاصيل. كنت أنا من محبي أعمال الرسام البلجيكي بول ديلفو. لذلك خصصت ناديا يوماً لزيارة متحفه في المدينة التي ولد فيها. ولا بد، طبعاً، من الذهاب الى المتحف الوطني ومتحف رينيه ماغريت. هذا الى جانب أهم المدن البلجيكية، مثل أنتويرب، مدينة الفنان روبينز، ولوفان، وغينت، وبروج، إلخ. بعد ذلك إصطحبتني ناديا في سيارتها الى الشقة التي استأجرتها لي، لأستريح، ثم تعود إلي لنتناول عشاءنا في مطعم «فرس الماء». لم أسترح. أنا لم أعرف معنى للإستراحة. الآن، صار الأمر يختلف. صرت أغفو على الكرسي بين ساعة وأخرى. رجعت الى أوراقي، وبدأت أفكر في الكتابة. استرجعت في ذهني الغرفة التي أنزلني فيها الصديق عبد الرزاق في فيينا، وستكون غرفة نوم شهرزاد. البداية ستكون عندما تستيقظ شهرزاد من النوم، وتحب أن تتشمس بدفء الشمس وهي عارية بعد أن تسحب ستائر النافذة العريضة الى الجهتين. كنت قد كتبت هذه البداية أكثر من مرة في ذهني. ورأيت الآن أن أدونها على الورق. شهرزاد هي ناديا. وأمها نمسوية وطبيبة أسنان (زوجة عبدالرزاق طبيبة أسنان)، أبوها فلسطيني يعمل في منظمة الأونيدو في فيينا. وشهرزاد تدرس في الجامعة لمرحلة الدكتوراه، وتعد أطروحة عن أغاني سانتا ماريا لألفونسو الحكيم، في محاولة لمعرفة ملحني كلمات هذه الأغاني، هل هم موريسكيون أم إسبان. في المطعم سألتها إن كانت تود أن أحدثها عن هيكل الرواية. قالت: «لا، لا أريد أن نشغل نفسينا بالرواية. أكتبها كما يحلو لك. وأنا قد اقرأها أو قد لا أقرأها عندما تفرغ من كتابتها. الرواية روايتك على رغم أنك ستستوحي شخصية بطلتها من شخصيتي. أنت تعلم أنني لا أحب قراءة أي شيء باللغة العربية». هذا أفضل بالنسبة الي، لأنني لن أتعرض الى الإمتحان، من قبلها على الأقل. تحدثنا عن برنامج يوم غد. هي ترى أن نذهب الى المتحف. ومساء الى مطعم «فولستاف». وقلت لها: «وبعد غد الى لوفان، لأنني أحب أن ألتقي بالصديق كامل شياع، والتجوال معه بين أروقة مكتبتها الفلسفية، ثم الذهاب الى المقهى التي يرتادها». ناديا لها معرفة تامة بمدينة لوفان، والمكتبة التي عثرت فيها على كتاب «إنانا» في الزيارة السابقة، وقمت بترجمته. (مع كامل تحدثنا عن فلسفة ما بعد الحداثة التي نورني بمعلوماته عنها. والتمست منه أن يبحث لي عن مصادر حول مفهوم الموسيقى الرفيعة). كنت أكتب بهمة في أوقات بقائي في الشقة. لم تتوقف ناديا عن إعطاء الدروس الخصوصية، لتغطية نفقاتنا وحركتنا. كانت تتلقى أجوراً لا بأس بها لقاء كل ساعة من عملها. وذات مرة اصطحبتني معها لأنتظرها في السيارة، لتعرفني بعد الإنتهاء من تدريسها، بفتاة يهودية تعطيها ناديا دروساً لمجرد الحديث معها بالإنكليزية لتحسين لغة الحوار عندها. أحبت أن تتعرف الى كاتب عربي. كانت «الأوبرا والكلب» أول عمل روائي أكتبه. كانت محاولة تجريبية. لم أنته من كتابتها في تلك الزيارة. لم أستطع أن أكون متدفقاً في الكتابة حتى النفس الأخير. أنا أعترف بأن الموضوع كان شيقاً ويشد القارئ، لكن محاولة تتبع جذور «المتتالية» في الموسيقى الغربية، وربطها بالنوبة في الموسيقى العربية أرهقتني، ولعلها أثقلت الرواية بشيء تفصيلي كان يمكن إجتزاؤه. وعلى أية حال، كان عليّ أن أتم إنجاز الرواية فيما بعد. لكن ناديا كانت تدخل معي في أحاديث عني، وعن كتاباتي. إن لديها إنطباعاً عني، من خلال أحاديثنا، وليس من خلال قراءاتها لكتاباتي، أنني كاتب ممتاز في ثقافتي وإنجازاتي الكتابية، ممتاز جداً! لكن لِمَ لمْ أطأ عالم الرواية بعد؟ (الأوبرا والكلب محاولة طارئة وقصيرة). قلت لها: «إن كل الأزرار جاهزة أمامي لأضغط عليها عندما أريد أن أكتب، إلا زر الرواية، التي أريد أن أتفرغ لها يوماً ما». «متى ستبدأ هذه المحاولة؟» «لا أدري. أنا أشعر بأنني أخضع الى قوة غامضة عند الكتابة، هي أشبه بالمراحل، اللاإرادية، كالمرحلة الزرقاء، والمرحلة الوردية. أنا لا أدري متى تبدأ مرحلة الرواية عندي». قالت: «أنا معجبة بك كثيراً، كثيراً جداً والحق يقال. وأنا أتحدث عنك أمام صديقاتي، وأدعوك بالكاتب، فصارت هذه كنيتك. صدقني أنني أفتخر وأعتز بك. But there is something vacant, you ought to fill it. أكتب شيئاً مثل «المريض الإنكليزي»، أو «خارطة الحب» لأهداف سويف، وما رأيك بأمين معلوف؟ قلت لها: «لنترك أمين معلوف الذي يضجرني في «مصداقياته»، رغم إعجابي الجم بكتاباته. وأنا لا أستطيع أن أكتب على غرار «المريض الإنكليزي». الغربيون تجاربهم غنية جداً في مواضيع الحروب وفي كل شيء. إن لهم تاريخاً غنياً في كل شيء. وأنا أحببت رواية «خارطة الحب». إنها رواية جميلة جداً، يسعدني أن أكتب شيئاً على غرارها. لكن المشكلة معي أنني لا أملك مخيلة واسعة في الكتابة الروائية، مثل تشارلز ديكنز، الذي لا يعجبني كثيراً. أنا حبيس تجربتي أو تجاربي في الحياة، ولصيق بها. هي غنية، وسأستفيد منها، لكنني...». كنا في مطعم «بيف أيتر» الذي يقدم كعكة تفاح (مع أيس كريم) ولا ألذ منها. وتوقفت عن الكلام لأمتع بصري بالنظر إليها، الى جمالها الآسر، الذي يمنحني إحساساً بسعادة فردوسية. «لكنك ماذا؟» «أستطيع أن أجد كفايتي في جمالك!» «أوه، علي، كن جاداً». «طيب، أنا سأنصرف الى كتابة الرواية من كل بد. إنها تدعوني اليها مثل سيرينات كيركا، مغويات البحارة في ملحمة الأوديسة، لكنني أفكر في كتابة عمل واحد متألق من بين كل ما كتبت وما سأكتب. عمل عنك بالكامل». «متى؟» «عندما تخونينني!» «لكني لن أخونك على الإطلاق». «أدري، لذلك سألجأ الى المخيلة هنا، وأكتب عنك، عنا، عندما تخونينني على الورق». «لماذا تريد أن أخونك؟» «لكي أتعذب عذاباً عظيماً يضفي على الرواية بعداً دراماتيكياً يغني الرواية في الصراعات السايكولوجية المدمرة». «أدركت مقصدك. وهل سأتركك نهائياً، ومع من أخونك؟». «لن تتركيني، ستخونينني مع رجل يأسرك في نبله ومؤهلاته العالية». ضحكت، وقالت: «لماذا تريد ذلك؟» «لكي أكتب عملاً روائياً متألقاً!» «طيب، أنا أتطلع الى ذلك».