إشكالية حب الوطن أنه مهما زادت أو قلت جرعة حبه في عروقنا؛ فإنه يبقى عزيزاً ويظل القلب النابض الغائص في أعماقنا حتى النخاع.. من المستحيل أن نزاود عليه أو نبيعه.. نعاتبه بحقوقنا وما نلبث إلا ونحن له آسفون.. نغضب عليه، ومن ثم نعود نبوس جبينه.. نهجره دقائق وبعدها نركض لاهثين بالاعتذار مثل الأم الحنون.. هكذا هو الوطن! يوم أمس أصر إبليس – والعياذ بالله من وسواسه – إلا أن يتلف على جلستي أثناء شرب القهوة في المقهى.. لم أعطه أي بال ودخل معي في نقاش حاد حول الميزانية.. قلتُ له: (حرة على قلبك) ميزانية الوطن بخير، وفيها خير للمواطنين! فقال لي: بلا وطن بلا ميزانية! قلتُ له: (أفا) لكن هذا أنت يا إبليس – الملعون – ما يطلع منك إلا المصايب والكوارث.. ثم قال لي: «طيب امشي معي حبة حبة».. قلت له: ولا أطيعك لأنك أنت أول مَنْ وسوس في أذن آدم عليه السلام – أبو البشر – وتريد الآن أن تعبث بي.. تجاهلته ثم أخذتُ أشرب القهوة متمعناً في البشر من حولي. كان إبليس منهمكاً في الشرح، وأنا أمارس لذة الصمت مستمتعاً بقراءة تفاصيل الميزانية في الجريدة، ومتابعة مَنْ حولي في المقهى.. سمعتُ منه بعض (الذبات) التي كانت تستفزني لدرجة أن تركيزي يتشتت قليلاً ثم يعود إلى صوابه بفعل المعوذتين.. فجأة قال لي: للحين وأنت تسكن بالإيجار! (أتجاهله) وأشرب رشفة قهوتي المرّة! يعود إبليس من جديد مكشراً بأنيابه.. للحين تدفع أقساط زواجك منذ خمس سنين! (أطنشه) وأبتسم للنادل الأجنبي! تظهر صورة إبليس في القهوة وهو يقول: للحين تنتظر متى تأتي الكهرباء والخدمات والبشر لأرض المنحة التي كانت وما زالت في الصحراء على أطراف المدينة! (أعطيه ركبة) وأتصل بالجوال على زوجتي المعلمة لكي أتأكد من وصولها سالمة غانمة من رحلة ثلاثمائة كيلو متر! يخرج إبليس من وسط الجريدة: للحين البطالة تزداد مع حافز وجدارة والعوانس والمطلقات بلا حقوق! (أزلبه) وأفتش إيميلي لأجد رسالة رفض طلبي الوظيفي في الشركة الأجنبية! صمت إبليس قليلاً، وقلتُ الحمد لله الذي أزاله من عقلي؛ ليعود مجدداً: للحين الشركات الأجنبية، التي لها من السعودة اسمها (فقط) مسيطرة على مشروعات البلد! (أزحلقه) وأطلب قهوة مرّة أخرى! يلتف إبليس حول الكرسي: للحين الفساد ينخر في البلد وكل مَنْ تطول يده يطول رقم رصيده! (أبصق عليه) وأعدل من جلستي متذكراً خانة رصيدي الذي لم يتعد الأربع خانات! يتلبس إبليس هيئة النادل، ثم يقول: للحين الواسطة والعنصرية تقود البلد في التوظيف للمناصب! (أعطيه ظهري) وأقرأ في الجريدة عن إعلان لوظائف بمواصفات إقليمية! يهمس إبليس في أذني: للحين مجلس الشورى لا يزال متخصصاً في نزف الورق في وضع الدراسات الاستراتيجية، وفوق هذا ينامون في الجلسات! (أنظر له باستحقار) وألعب مع الطفل الذي يشحذ أمامي في المقهى! يظهر إبليس في المنديل الذي أمسكته في يدي لأمسح دموعي، ليقول: للحين المهايطي والكذوب صوته يملأ الدروب و»من ديرة إلى ديرة يجوب»! (أجحده) وأطلب قطعة من (الشكوى لله) عفواً الشكولاتة! فجأة ظهر إبليس أمامي بهيئة غريبة، وقال: للحين (وذكر كلاماً مربكاً بأرقام وإحصائيات جعلتني أتلفتُ يمنة ويسرة والقهوة ترتجف بيدي)! عندها (مبدهاش) تعوذتُ من أبليس مائة مرة واختفى الملعون من المقهى! وطني الغالي: المواطن يأمل أن يكون خير الميزانية في صالحه، وصالح أسرته ومستقبله الغامض.. لا نريد أن تتحول الميزانية إلى أرقام فلكية وإعلان ومسيرة تفوق ونجاح يتقاطر منها لُعاب المواطنين دون فائدة، وبعدها يخلدون إلى النوم في حلم آخر لميزانية عام آخر! وطني العزيز: مهما حاول إبليس أن يبعدنا عنك؛ فهو فاشل لأن نبض القلب يأتي منك، وعندما تبتعد تتوقف حياتنا.. وطني الحبيب: أنت قلبنا.. تحمّلنا (جلطة) الزمن لأجلك، وصبرنا على (ذبحة) الغدر لروحك، وصمدنا أمام (تصلّب) الرأي لحقوقك، وقاومنا (سكتة) القرار لاحترامك، وعملنا (صمام) الأمان لسلامتك.. كل هذا من أجلك يا وطني.. وطني العزيز: إننا نقسو عليك (أحياناً) من أجلك أنت؛ فلا تقس علينا بما تجود به من خيرات.. نحن نحبك!