كثيراً ما أقول في نفسي ولأصحابي بأنّ مشكلتنا المحورية -التي تدور حولها مشكلاتنا الأخرى- تكمن في (التطرّف) الذي لم يعُدْ قاصراً على المنحى الديني وحسب، بل تجاوزه إلى غيره من مناحي الحياة المختلفة؛ أقول ذلك وأكاد أوقن بأنّ العِرق العربي مفطورٌ على التطرّف العاطفي، وأرجو أن يخيب ظني؛ فبقايا الأمل في خيبته. عُدت من إحدى سفرياتي وإذا بصاحبٍ قديمٍ قريبٍ حالت الظروف بيني وبينه عقداً أو يزيد، وحتى يُعلَن عن موعد الرحلة الداخلية كان الحديث الشائق -مع ما فيه من شجون- قد أحال الساعات الأربع إلى انتظارٍ لطيفٍ خفيفٍ كالذي يكون في محطة قطار أوروبية. استفتحتُ بوجهه الجميل، وودّعته بعبارته الرائعة المؤلمة «هذا قدرنا! من برّا الله الله، ومن جوّا يعلم الله»! يااااه! كم عذّبْتَني يا صديقي! هل نحن كذلك فعلاً؟! لقد تكرر هذا المثل على سمعي كثيراً، ولكن كان له من فمك نغمٌ آخر أشجى القلب وحرّك العقل! فهل نحن كذلك فعلاً؟! أقلعت الطائرة.. ثم هبطتْ.. وأنا في دوامة ذلك السؤال الذي عصف بذهني، لكنّي تماسكتُ وخرجتُ منه بلقطاتٍ عديدة ومخيفة؛ تعكس -في ظني- واقع مجتمعٍ مشغولٍ ببناء ناطحاتٍ من مظاهر، على مخابر تكاد تنهار.. مولعٍ بما يراه الآخرون فيه، لا بما يراه هو في نفسه.. لاهٍ بما يشبه الألعاب النارية التي سرعان ما تذوب في بحار الظلمة والصمت، عن تلك الأنوار الدائمة والأنغام الباعثة من تعاليم الدين وقوانين العلم.. متعطّشٍ إلى مزيد من (الصّيحات) و(الموضات) التي لا تتجاوز الشكل إلى ما وراءه، إلى الأعماق. نحن بالفعل مشغولون في بناء المظاهر على حساب المخابر: 1- نربّي أولادنا لا على ما نريده نحن -في الحقيقة- بل على ما يريده الآخرون الذين يمثّل جمعُهم تياراً أو حزباً أو قبيلة أو إقليماً أو محافظة..إلخ، نربيهم حتى يكونوا من أولئك؛ أمّا لماذا كان ذلك؟ وكيف؟ وعلى أيّ مبدأ بُنِيَ..؟ فليس بذات أهمية؛ المهم أنه تحقّق، والغاية تبرر الوسيلة، ولا يعني المخبرُ إذا كان المظهر. 2- نبني المنازل ونصْب أعيننا أن تكون غرف الضيافة هي أجمل ما فيها، وفي أحسن المواقع! ونصرف في ذلك من الجهد والمال ما لا نصرفه في استراحة الأسرة (غرفة الجلوس) وغرف النوم! بل ندفع في (الواجهة) ما قد يربو على أثاث البيت كاملاً؛ كلّ هذا حتى يقول المارّ والعابر والزائر: ما أجمل بيت فلان! عليه كذا وفيه كذا! نبني منازلنا لهم وليس لنا، ونُظهرها في أحسن زيّها، أما الداخل البعيد -حيث المخابر- فلم يحظَ بربع هذه العناية، وربما صدق عليه قول المثل (.. يعلم الله). 3- نبرز المحلات التجارية على أكمل وجه وبأقصى ما نستطيع، ونهمل ما لا تصل إليه عيون الزبائن؛ فما يعنينا المظهر وحسب. وكم كشفت الرقابة عن قذارة متناهية وبؤر مخيفة في مطاعم مشهورة، واجهاتها جميلة ومقاعدها نظيفة وعمالتها أنيقة؛ وعن مراكز تجارية هي تحفة معمارية من خارجها، وأما داخلها فيقبع الخطر الذي ينتظر شرارة تماس كهربائي فتُحرِق، أو زيادة أحمال فتنهار على من فيها. 4- تؤلمنا تلك المخالفات الشرعية التي قد تظهر على المسلم أو المسلمة، وربما ملأنا المنابر والمجالس والأوراق بالنصائح والتحذيرات؛ نصيح على حلق لحية أو إطالة ثوب، ولا نعير اهتماماً كافياً بما هو أطمّ؛ كالتقصير في الواجب الوظيفي، وسوء الظن بالآخرين، والحفاظ على المال العام، وعلى هوية المجتمع المسلم.. إلخ، فالأَولى هو المظهر الخارجي الذي يراه الجميع في كل مكان، وسلامته مقدمة على سلامة القلوب حيث الأمانة والطهارة والعفّة. 5- تتسابق الجامعات إلى الظفر ب(تصنيف) عالمي يساويها بجامعات غربية أو شرقية، وتدفع أموالاً طائلة لاستضافة أستاذ مرموق لن يعطي -في يوم وليلة- ما يشفي ويكفي؛ أو من أجل زيارة قصيرة لفريق يمنحها وساماً على حبر وورق فقط.. في الظاهر وحسب.. أما الإنتاج الحقيقي فبعيد من المأمول، وأما الطالب نفسه -ذلك الذي لم تفتح الجامعة إلاّ من أجله- فاسألوه عن تلك (الجودة) التي لم يذق ثمرتها، وعن ذلك التسابق -لا التنافس- الذي لم يحضره حتى. 6- تكرِّس الجهات المعنية جهودها وطاقتها لاستقبال ذلك المسؤول، فتعمل على أن لا يرى ويسمع ويشمّ ويذوق ويلمس إلاّ ما يُرضي؛ فالطريق لا عوج فيه ولا أمتاً وفي أتمّ نظافته، والأشجار متناسقة، والمساحات الخضراء على أحسن ما يكون، ولا تسأل عن الأماكن والمقرات المدرجة في جدول الزيارة الخاطفة؛ فقد هُيِّئتْ من قبلُ بطريقة لافتة. أما ما عدا ذلك ف(على طمام المرحوم) ينتظر مثل هذه الزيارة؛ إنها مظاهر خادعة تخفي خلفها -عمداً- حقيقة ما عليه تلك الجهات. نحن مجتمع -في مجمله- مشغول بزخرفة مظهره وزركشته، مخدوع بحقيقة ما هو عليه؛ يظنّ أنه قد بلغ السماء بفعله هذا -تديّناً وعلماً وقوةً- ولم يبرح الأرض بعدُ، ولن يبرحها وحاله تلك بما تقوم عليه من تطرّف ومكابرة ودمدمة. إننا بالفعل مجتمع يصدق عليه المثل الشعبي (من برا الله الله ومن جوّى يعلم الله).