أشرتُ في مقالي السابق إلى رأي الأستاذ عبدالله المالكي بأن «سيادة الأمة» مقدمة على «قبولها للمرجعية الإسلامية»، وهو رأي قوبل بردود عدة، بعضها يؤيده -ولن أعرض لها هنا- وبعضها يعارضه. فمن الذين ردّوا عليه معارِضين الأستاذ سلطان العميري، بمقال عنوانه «ظاهرة المقابلة بين تطبيق الشريعة وسيادة الأمة»، والأستاذ فهد العجلان بمقال عنوانه «هل الإلزام بأحكام الإسلام يؤدي إلى النفاق؟!»، والمقالان منشوران في موقع «المقال» نفسه. ويتلخص رأي الأستاذ المالكي -كما رأينا في مقالي السابق- في أنه يجب أن تستفتى «الأمة»، بعد إزاحة الحاكم المستبد، في إن كانت تقبل ب»المرجعية الإسلامية» أم لا. فإذا قبلت بها فذلك هو المطلوب، أما إذا رفضتها فلا يمكن فرضها عليها، خوفاً من تمسكها الظاهري بها وإخفاء مخالفتها لها، وهو ما يؤدي إلى «النفاق». أما رأي الأستاذ العميري، فتلخصه الفقرة التالية من مقاله «إنه لا داعيَ لإثارة هذه القضية أصلاً في حل مشكلة الاستبداد؛ لأن المشكلة ليست في أصل تطبيق الشريعة، ولا في حفظها وظهور أحكامها، ولا في وجود علماء في الأمة يصدحون بالحق صباح مساء، وإنما في حكام استبدوا بالأمر». وهو ما يتفق معه الأستاذ العجلان. ويرى الأستاذ العميري أنه لا يمكن تخيير «الأمة» ابتداء، بل يجب «فرض» الشريعة عليها مباشرة. وكذلك يذهب الأستاذ العجلان لأن «الإلزام (بالشريعة) أصل شرعي محكم يقوم على نصوص وأحكام وقواعد لا تحصر»، ولا خوف بعد ذلك من وجود المنافقين؛ «فوجودهم حالة طبيعية ملازمة لتطبيق الشريعة وقوتها، وظهورها وليس عيباً على الشريعة، فالنفاق لا يخرج إلا في المجتمع الإسلامي القوي، حين تظهر شعائره وتعظم حرماته، فيضطر البعض لسلوك النفاق؛ لأنه لا يستطيع أن يمارس فساده وانحرافه، فهذا علامة قوّة وصحة للمجتمع»! فيتفق الأساتذة الثلاثة على أن المشكل الرئيس الذي تعاني منه «الأمة» هو استبداد الحكّام؛ لذلك يتفقون كلهم على أن الخطوة الأولى تتمثل في تخليصها منه. لكن الخلاف بينهم يتبيّن من آرائهم عن الخطوة التالية لاستعادة «الأمة» سيادتها على نفسها. فيوحي الأستاذ المالكي في نهاية مقاله بأن «الأمة» التي اختارت رفض «المرجعية الإسلامية» ليست «مسلمة» حقاً! وهو ما يوجب أن يهب «دعاة الإسلام» لتبيين محاسن الإسلام لها مجدداً. إضافة إلى رأيه أنه لا خيار للمسلمين، حتى إن رفضوا «المرجعية الإسلامية»، إلا الرضوخ لها كما تتمثل في الكتاب والسنة! أما العميري والعجلان، فيريان أنه ليس ل»الأمة» حق أصلاً في أن تختار بين «تحكيم الشريعة» وعدم تحكيمها، بل لابد من إخضاعها لها من غير أن تسأل عن رأيها. ومن هنا يبدو أن الخلاف بين الأستاذ المالكي وناقدَيْه مرحليٌّ؛ فحين يرى المالكي أن «الأمة» التي رفضت «مرجعية الشريعة» ليست واعية بما تفعله، أو جاهلة بالإسلام، أو منحرفة عنه، وهو ما يوجب دعوتها إليه من جديد، ثم تطبيق «الشريعة» عليها؛ لأنه لا خيار لها غير ذلك، يرى الأستاذان العميري والعجلان أن «الأمة» مسلمة في حقيقتها، سواء أكانت واعية بذلك أم لا، جاهلة به أم لا، منحرفة عنه أم لا. وهو ما يوجب تطبيق الشريعة عليها من غير التفات لرأيها. ومع إمكان الاتفاق مع الأساتذة الفضلاء على أن مشكلة المسلمين الأولى تتمثل في استبداد الحكام، وهو ما بيّنته شعارات الثائرين في ميادين القاهرة وتونس وليبيا وسورية واليمن وغيرها، التي نادت بانتزاع السيادة الوطنية من أيدي المستبدين، إلا أن تخيير تلك الشعوب بين تطبيق الشريعة وعدم تطبيقها تخيير زائف من أساسه، وكذلك فرض الشريعة عليها. فما دمنا نصف هذه الشعوب بأنها «مسلمة»، فلابد من الاعتراف بأنها «مسلمة» حقيقة، وهو ما يعني أن تخييرها في «تحكيم الشريعة» من عدمه، أو «فرض الشريعة» عليها، لا معنى له، وهي لا تقبل بأي من الإجرائين؛ لأنهما في حقيقة الأمر حكمٌ عليها بأنها ليست «مسلمة» فعلاً. وتعاني الآراء الثلاثة كلها من مشكل أساس يتمثل في؛ ما «الشريعة» التي يراد تطبيقها؟ أهي شيء ناجز متفق عليه، أم أنها اختيار مذهب معين، أم هي ما سيكون مجالاً للنقاش بين المشرِّعين والفقهاء؟ والسؤال الأهم الذي يجب أن يجاب عليه قبل عمليتي التخيير والفرض هو من الذي يحق له أن يخيّر «الأمة» أو يفرض عليها؟ أيعني ذلك أننا بحاجة إلى «مستبد» جديد ليتخذ أحد الإجرائين؟ وإذا لم يكن هناك مثل هذا «المستبد» فمن الذي يحق له ذلك؟ إن مقترحات الأساتذة الفضلاء هذه لا تعني إلا الدعوة للاستبداد الديني، الذي لا يقل خطراً عن أنواع الاستبداد الأخرى كلها. وهي دعوة تأتي في غير أوانها. فقد رأينا في الانتخابات التونسية والمصرية والمغربية أن الأحزاب «الإسلامية» تفوز بالأغلبية، بغض النظر عن الأساليب التي استخدمتها. ودلالة هذا الفوز أن أكثر الناس في تلك البلدان «مسلمون»، ويعطون أصواتهم لمن عملت تلك الأحزاب نفسها طوال العقود الماضية على استتباعهم لمقولاتها التي تسعى إلى «أسلَمة» المجتمع. كما رأينا هذه الأحزاب تصرح في بياناتها أنها لا تنوي تنفيذ برامجها التي كانت تنادي بها عن «تطبيق» ما يراه كثير من المسلمين «تطبيقاً للشريعة»! وقد تناول الأستاذان العميري والعجلان في مقاليهما المفاهيم السياسية الحديثة -وأهمها «الديمقراطية»- بالتشنيع. هذا مع أن الآليات الديمقراطية هي التي مكّنت «الأحزاب الإسلامية» من تصدُّر المسرح السياسي في البلدان التي فازت فيها بالانتخابات، ومنها «السلفيون» في مصر، الذين تخلّوا عن تحفظاتهم عليها! وخلاصة الأمر، أنه لا مكان الآن لأي نوع جديد من الاستبداد، بعد أن ذاقت «الأمة» ويلاته. ويعني هذا أنه حتى لو كان القيام بأي من الإجرائين ممكناً، فلن يقوم به فرد متسلط أو جماعة متسلطة بعينها. أما المؤهل لذلك فهو «مجلس نيابي»، يُنتخب بالوسائل الديمقراطية التي تتصف بأنها آلية محايدة لا علاقة لها بالنظم المعرفية والعادات والفلسفات التي تسود في مجتمع معين. وستكون مثل هذه الإجراءات وغيرها من القوانين مجالاً للتفاوض مع تيارات أخرى ربما تتعارض في أفكارها وأولوياتها مع «الأحزاب الإسلامية».