نواف القديمي - الاسلام اليوم لا تكاد تقرأ كتاباً أو مقالاً أو دراسة عن (الديموقراطية) بقلم أحد الإسلاميين إلاّ وتجده يُكرر مقولات مفادها (أن الديموقراطية هي حكم الشعب، وفي الإسلام الحكم للشريعة وليس للشعب).. (في الديموقراطية يحق للشعب تشريع القوانين والأنظمة.. وفي الإسلام الله عزوجل وحده هو المُشرّع). سأحاول فيما يلي مناقشة هذه المقولات واختبارها وفق الأصول الشرعية والتطبيقات الديموقراطية الحديثة. * * * * يقوم النظام الديموقراطي في إطاره الكلّي على مبدأ رئيس هو (عدم استخدام العنف في التغيير السياسي، واللجوء فقط إلى الخيارات السلميّة، واعتماد آليات وأدوات مؤسسيّة لإدارة الصراع والاختلاف في المُجتمع)، ويكون هذا المبدأ بمثابة (عهد وعقد وميثاق) بين كل القوى والفصائل والأحزاب والتيارات المُكوّنة للمجتمع. لذلك ففي كل المُجتمعات الديموقراطية ثمة (دستور) يمثّل المرجعيّة العليا المعنيّة ببلورة النظام العام للدولة، وتتفرّع من هذا الدستور جميع القوانين واللوائح والتشريعات المُنظِّمة للحراك السياسي والاجتماعي والثقافي. فكيف يُصنع الدستور؟ ومن يُحدد مضامينه؟ من بداهة علم النُظم السياسية أنه لا توجد عناصر فكرية ثابتة ومُحددة يجب أن يشملها أي دستور، بل إن (الدستور) لا يعدو أن يُمثِّل (طبيعة القوانين والأنظمة التي تضعها الأمة وترتضيها، لتصبح مرجعية عليا وسقفاً تشريعياً لا يمكن تجاوزه حتى من نوّاب الأمة وممثليها). لذا يتشكل أي (دستور) بحسب المعطيات الثقافية والدينية والاجتماعية لكل بلد. فلو اتفقت غالبية الشعب على أن تضع دستوراً متوافقاً مع الشريعة الإسلاميّة، وينص هذا الدستور على (عدم السماح بقيام أحزاب على أساس علماني) و (عدم اعتماد أي قوانين تُخالف ثوابت الشريعة وقطعيّاتها). عندئذ يحق للسلطة المُنتخبة شعبيّاً منع قيام أحزاب على أساس عِلماني، وعدم السماح باعتماد أي قوانين أو أنظمة تنطوي على مُخالفة للشريعة. ولكن.. أليس للشعب الحق في تغيير الدستور؟ بِلا شك إن لكل شعب الحق في القيام بتغيير دستوري وفق ما يرى أنه أفضل. ولكن بتتبّع بسيط لغالب الأنظمة الديموقراطية الموجودة، سنجد في تلك الأنظمة تشريعات تنطوي على مبدأ (تعقيد إجراءات تغيير الدستور). لماذا؟ لأن الدستور يمثل سقفاً أعلى للتشريعات، وتغييره يعني فتح الباب على مصراعيه لتغيير عدد كبير من الأنظمة والقوانين، وهو أمر سيُحدِث خللاً هائلاً في البنية التشريعيّة للدولة، بسبب عدم الاستقرار في النظام التشريعي. وحتى لا يكون التغيير الدستوري مُتاحاً لكل فئة من الشعب بمجرد امتلاكها لأغلبيّة برلمانية بسيطة، ولكي يُقلل من تأثير لوبيّات المال والإعلام على قرار الناس. لذا فإن قرار التغيير الدستوري ولو كان تغييراً بسيطاً في مادة دستورية واحدة ينطوي في كثير من الأنظمة الديموقراطية على إجراءات قانونية مُعقّدة. مثل أن يحصل هذا التغيير ابتداءً على موافقة أغلبية الثلثين أو ثلاثة أرباع البرلمان المُنتخب.. ثم وجوب حصوله على موافقة (المجلس الدستوري) وهو مجلس مُنتخب، وأعضاؤه عادة من الفُقهاء الدستوريين. وفي الدولة الإسلامية سيكونون حتماً من الفقهاء في الشريعة والقانون بحسب الاشتراطات الموضوعية المطلوبة في التأهيل اللازم للمرشحين لهذا المنصب. المهم أن يكون هذا المجلس منتخباً (سواء من الشعب أو من البرلمان)، لا مُعيّناً كما في مجلسي (صيانة الدستور) و(تشخيص مصلحة النظام) الإيرانيين .. وبعد حصوله على موافقة المجلس الدستوري، يُطرح هذا التغيير الدستوري على الاستفتاء الشعبي. وفي هكذا استفتاءات لا يجب أن تكون الموافقة بالأغلبية البسيطة، بل إن بعض الأنظمة تشترط الحصول على أغلبيّة ساحقة قبل إجراء أي تغيير دستوري. وفي تجربة إقرار الدستور العراقي عام 2005م حين طُرح هذا الدستور على التصويت الشعبي بعد تجاوزه لكل المراحل القانونية السابقة كان يحق لأغلبيّة الثلثين في ثلاث مُحافظات فقط من ثماني عشرة محافظة في العراق رفض هذا الدستور. أي أن نظامهم أعطى الحق لنسبة سكانية مقدارها 12% من التعداد العام للسكان لرفض إجراء أي تغيير دستوري. والطّرق السابقة طبعاً لا تُعد أنظمة حصريّة لآليات تغيير الدستور.. بل يحق لكل أمة أن تضع أنظمة ومعايير صارمة لتعقيد التغيير الدستوري، حتى لا يُصبح هذا التغيير سهلاً وخاضعاً لتقلبات المزاج الشعبي السريع. وهنا يأتي سؤال.. وماذا لو اتفقت الغالبية الساحقة من الشعب على رفض الشريعة؟ طبعاً يستلزم من هذا السؤال افتراض وجود مشكلة حقيقية في موقف هذا الشعب من الإسلام، حتى يكاد يُجمع هذا الشعب على رفض تطبيق الشريعة! وهذا بلا شك افتراض أقرب للخيال، ولا يحظى بأي خانة في سلّم الاحتمالات الواقعية.. ولكن مسايرة لهذا الاحتمال الضئيل، وبافتراض إمكانية حصوله، يُطرح السؤال التالي: في حال اتفقت الغالبية الساحقة من الشعب على رفض الشريعة. ما هي الخيارات العمليّة على الأرض للمؤمنين بوجوب تطبيق الشريعة حينئذٍ؟ سيكون أمام المؤمنين بتطبيع الشريعة خياران لا ثالث لهما، هما: الأول: استخدام العنف (الثورة / الجيش....الخ) للهيمنة على السلطة، وفرض الشريعة بالقوة.. وهذا يعني تشريع مبدأ (العنف) في الوصول للسلطة، بحيث تستطيع أي فئة من الشعب بمجرد رفضها لقرار مجموع الأمة، أن تقوم باستخدام العنف للهيمنة على قرار البلد.. ولا أظن أن ثمة حاجة لإطالة الحديث عن هوية (الضحايا الدائمين) لهيمنة الأقليّات بالقوة على قرار الأمة. لأنهم الإسلاميون دون شك. الثاني: الرفض الصارم لتنحية الشريعة، وعدم الاعتراف بالشرعية الدينيّة للسلطة (وإن كان ثمة تسليم بالشرعية الواقعية والسياسية على الأرض، والتعامل معها، كما يحصل لغالبية الإسلاميين في الدول الإسلامية التي تفرض حكوماتها القمعيّة تنحية الشريعة بالقوة والغلبة لا بإرادة الناس)، وسيعمل الإسلاميون حينها بكل ما أوتوا من قوة حركية وفكرية ومالية وإعلامية لتغيير الوضع القائم، ولكن من دون عنف، بل بالاكتفاء بالوسائل السلميّة المدنيّة. وذلك التزاماً بالعهد والميثاق المعقود مع غير الإسلاميين، والقاضي بعدم استخدام أي طرف للعنف والقوة في التغيير السياسي، واللجوء فقط للأساليب المدنيّة السلميّة، وهو كما ذكرنا من مبادئ النِظام الديموقراطي . فهل ثمة ما يمنع شرعاً من التزام الخيار الثاني؟ خاصة أن جميع الإسلاميين في الدول العربيّة والإسلاميّة (حتى أولئك الرافضين والمُحرِّمين للنظام الديموقراطي) يرفضون واقعياً استخدام العنف في التغيير، سواء تحت مسوّغ (الرفض المبدئي للعنف في التغيير) أو (لخشية الفتنة) أو لسواهما. وأتساءل أيضاً: ما الفرق بين أن يفرض (حاكم واحد) سُلطة الشريعة على الشعب كما حصل طِوال التاريخ الإسلامي وبين أن يُلزِم الشعب نفسه دستورياً بتطبيق الشريعة؟ الفرق في تقديري ينحصر في أن (الحاكم المُتفرِّد المُستبد) الذي لم يأتِ بالخيار الشعبي، بل أتى بالقوّة والغَلَبَة، يُمكن أن يتخذ في أي وقت قراره بتنحية الشريعة (لأنه في الأصل قرار فردي). وثمة تجارب كثيرة قام فيها الحاكم المتفرِّد المُستبد بتغيير الشريعة ورفضها. حيث يجد المتابع للتاريخ الحديث عشرات النماذج لحُكّام مسلمين معاصرين بالذات في مرحلة ما بعد الاستعمار وعدوا شعوبهم بتطبيق الشريعة، ثم بعد وصولهم للسُلطة بالقوّة نكثوا بوعودهم. وهناك أيضاً مِئات التجارب على امتداد التاريخ الإسلامي لحُكام متفرّدين نقضوا أصولاً شرعية ثابتة ومُستقرّة. وفي كل هذه التجارب لم يكن للشعوب أي قدرة أو قرار لرفض تنحية الشريعة أو رفض خرق السلطة لبعض أصولها. لكن في ذات الوقت ليس هناك تجربة تاريخية واحدة أكرر واحدة تم فيها تخيير شعب مسلم في أي بلدٍ كان قديماً أو حديثاً وكان اختيار هذا الشعب تنحية الشريعة. يتجلى هنا السؤال الكبير.. باستعراض التاريخ: من الأبعد عن قرار تطبيق الشريعة، الحاكم أم الأمة؟ لا أظن أن ثمة (مُتابعاً مُنصفاً) يختلف على أن الأمة أكثر التزاماً بخيار تطبيق الشريعة من الحُكّام المتفرّدين. لماذا إذن لا نرهن تطبيق الشريعة ب (قرار الأمة) بدلاً من أن نرهنه كما في طوال التاريخ الإسلامي بقرار حاكم متغلّب ومستبد؟! نحن رأينا شعوباً كاملةً كانت رابضةً تحت الاستعمار السياسي والثقافي والعسكري، سواء كان استعماراً غربياً كما في الجزائر التي بقيت أزيد من (130) عاماً تحت الحكم الفرنسي. أو استعماراً شرقياً كما في الجمهوريات الإسلامية الآسيوية التي رزحت أكثر من (180) عاماً تحت الحكم القيصري الروسي ثم البلشفي السوفييتي.. وكل هذه الشعوب اختارت الإسلام بمجرد أن صار القرار بيدها بعد زوال الحكم العسكري الاستعماري عنها. وإن تم وبكل أسف اغتصاب قرار هذه الشعوب بالعنف والانقلاب العسكري المحلّي. إن رفض منح قرار تطبيق الشريعة للأمة ينطوي وإن دون قصد على الثقة ب رجل واحد (حاكم) أكثر من الثقة بمجموع الأمة المسلمة. دعونا نختبر (الخيارات العمليّة المُتاحة حالياً) لتعامل التيارات السلفيّة مع الأنظمة القمعيّة الرافضة للشريعة في العالم الإسلامي. ما هي خيارات العمل على الأرض وهنا أقصد الإجراء العملي لا الحكم الشرعي عند السلفيين إذا ما قام (حاكم متفرّد ومتغلّب) بنقض أصول شرعية ثابتة أو قام بتغيير الشريعة؟ الخيارات العمليّة برأيي لا تتجاوز أمرين: الأول: البقاء والخضوع عملياً لهذا الحاكم (وإن اعتُبر حاكماً غير شرعي) تحت مسوّغ خشية الفتنة وخطورة الخروج. والاكتفاء إما بالنصيحة السرية فقط، أو بالإنكار العلني. الثاني: هو خيار الخروج المسلّح مع كل ما يحمله من دمار وفوضى ودماء، والتجارب الدامية للجماعات الجهادية معروفة للجميع. لذا ترفض الغالبية الساحقة انتهاج هذا المسلك. قد يقول البعض: أنت تريد أن تمنح الشعب حق رفض الشريعة؟! وأقول إنني لا أمنح أحداً أياً كان حق رفض تطبيق الشريعة. ولكن يجب أن أفرِّق بين (الحق الشرعي) الذي لا يملك المُسلم تجاهه إلاّ التسليم. وبين (حق تطبيق وحِماية الشريعة) الذي يقف المُسلم فيه بين خيارين: إما أن يكون هذا الحق عملياً بيد (الأمة) أو بيد (حاكم فرد). وفي هكذا حال، سأختار دون شك أن يكون هذا الحق بيد الأمة؛ لأنها الأقدر على حفظ الشريعة وصونها ومنع السلطة من الانحراف عنها. لذا أعتقد أننا حين نسمع تلك الجملة التي تُكرر كثيراً: (في الديموقراطية الحُكم للشعب، وفي الإسلام الحُكم للشريعة) سنكتشف برأيي أن تركيبة السؤال خاطئة؛ لأن المرجعية في المجتمع المسلم هي دوماً للشريعة. لكن تطبيق الشريعة كان يُسند في التاريخ الإسلامي إلى (حاكم فرد متغلّب). وكان هذا الحاكم ينحرف كثيراً عن أصول الشريعة، ولم يكن النظام السياسي التقليدي ينطوي على أية آليات أو طرق عمليّة وسلميّة تمنع هذا الحاكم من الانحراف عن الشريعة. أما في النظام الديموقراطي فيُسند تطبيق الشريعة إلى (الأمة) التي هي أقدر على صونها وحمايتها من انحراف الحُكّام. وإذا ما انحرفت الأمة واختارت عدم تطبيق الشريعة وهذا لم يحدث تاريخياً ولا لمرة واحدة فهذا لا يعني أن الشعب بات هو المرجعية، بل تبقى الشريعة هي المرجعية الدائمة للمُسلم، وإن انحرفت الغالبية الساحقة من الشعب عنها، وإن انحرفت السُلطة المنتخبة عنها. لذا فإن السؤال الصحيح يغدو: (بمن نأتمن ولمن نعهد بواجب القيام بتطبيق الشريعة.. للحاكم الفرد، أم لمجموع الأمة؟) وهذا يذِّكرنا بما رواه الطبري عن عليّ -رضي الله عنه- حين قال له الخوارج: (أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟) فأجابهم عليّ: (إنا لسنا حكّمنا الرجال، إنما حكّمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال). وكذا ما ورد عن رسول الله في صحيح مسلمٍ من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي، أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أرسل سرية أو جيشاً أوصى أميره بوصايا، وكان منها قوله: (وإذا حاصرت أهل حصنٍ، فأرادوك أن تُنزلهم على حُكم الله، فلا تُنزلهم على حُكم الله. ولكن أنزلهم على حُكمك. فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا). وهذا يشير دون مواربة إلى أن الشريعة و(حكم الله) ليس أمراً قابلاً للتطبيق بمُفرده وبمعزل عن (أداة التطبيق) التي قد تكون ب (إرادة رجلٍ وفهمه) أو ب (بإرادة الأمة وفهمها).. لذا فالمُقارنة لا تنسجم إطلاقاً حين تكون بين (حكم الشريعة/ وحكم الشعب)، لأنها مقارنة بين جنسين مُختلفين.. بل يجب أن تكون المقارنة من جهة بين (حكم الشريعة/ وحكم القوانين الوضعيّة). ومن جهة أخرى بين الموكَل إليهم واجب حماية الشريعة وتطبيقها وهم إما (الحاكم الفرد/ أو مجموع الأمة). وإذا ما اعتمدنا جدلاً ذات الطريقة في عقد المُقارنات غير المُتجانسة، سنصل حتماً إلى نتائج غريبة، يمكن أن تساعدنا كي نفهم طبيعة المُشكلة في عقد هكذا مُقارنات. لنتذكر المقولة السابقة التي تتحدث عن أن الحكم في المجتمع إما أن يكون (لله أو للشعب). ولنحاول ذكر مرادفات شبيهة من مثل: (السيادة لله أو السيادة للشعب)، (القرار لله أو القرار للشعب)، (المُلك لله أو المُلك للشعب)، ليظهر لنا كثافة التضليل المكتنز في هكذا مُقارنات، حين نجد أنه طوال التاريخ الإسلامي لم يكن المُلك ولا السيادة ولا القرار إلاّ للحاكم المتفرِّد الذي لا مُبدِّل لحكمه ولا رادّ لقوله.. فلماذا نوضع اليوم أمام مقارنات جائرة تهدف إلى عزل الأمة عن اتخاذ القرار، وترك مصائر الناس بين يدي الحاكم المُستبد؟! المقارنة الحقيقية هي بين (الحُكم للفرد أو الحكم للأمة)، (القرار للفرد أو القرار للأمة)، (السيادة للفرد أو السيادة للأمة). ومنه ينبثق السؤال المُهم: (لمن نعهد بواجب القيام بتطبيق الشريعة.. للحاكم الفرد، أم لمجموع الأمة؟) وثمة نصوص شرعيّة مُتعددة تُشير إلى أن الحق يكمن مع جماعة المسلمين، كما ورد في السُنن بطرق متعددة، وصححه الألباني في تحقيقه لكتاب العز بن عبدالسلام (بداية السول في تفضيل الرسول) قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تُجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة)، وفي رواية أخرى: (إن أمتي لا تُجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم، يعني الحق وأهله). وكذا في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة). والأدلة في هذا المعنى كثيرة. لذلك فإن ابن تيمية في معارج الوصول بمجموعة الرسائل الكبرى حين ذكر قول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) قال: (والوسط العدل الخيار، وقد جعلهم الله شهداء على الناس، وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول. وقد ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال: وجبت وجبت. ثم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت وجبت. قالوا: يا رسول الله، ما قولك وجبت وجبت؟ قال: هذه الجنازة أثنيتم عليها خيراً فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً فقلت: وجبت لها النار. أنتم شهداء الله في الأرض. فإذا كان الله قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء فقد أمر به، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه، ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض، بل زكاهم الله في شهادتهم كما زكى الأنبياء فيما يبلغون عنه، أنهم لا يقولون عليه إلاّ الحق، وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلاّ بحق). ومع ذلك، وتماشياً مع كل الفرضيّات النظريّة ولو كانت مُستبعدة عمليّاً . فإذا أردنا اختبار هذه الفرضيّات، وذلك بالمُقارنة بين الخيارات (النظريّة والعمليّة) المُتاحة للمؤمنين بتطبيق الشريعة في حال انحرف كِلا النِّظامين (النظام الفردي الاستبدادي، والنظام الديموقراطي) عن تطبيقها. فسنطرح السؤالين التاليين: السؤال الأول: إذا انحرف (الحاكم المتفرّد) عن تطبيق الشريعة.. ماذا يجب على المسلم الداعي لتطبيق الشريعة؟ يجب عليه أولاً: أن يعتبر نظرياً أن هذا النظام لا يحظى بالشرعيّة الدينيّة. حتى وإن اعترف واقعياً بشرعيته العمليّة والسياسيّة. ثانياً: أن يحاول تغييره وفق ما هو مُتاح؛ فبعضهم يكتفي بالنصيحة السريّة، والبعض الآخر يدعو إلى الإنكار العلني ودعوة الناس، مع تقدير المصالح والمفاسد وعدم إحداث فتنة في البلد المسلم. وآخرون يقومون باستخدام العنف والثورة (الخروج المسلّح). السؤال الثاني: إذا انحرفت الأغلبية الساحقة من الأمة (في نِظام ديموقراطي) عن تطبيق الشريعة. ماذا يجب على المسلم الداعي لتطبيق الشريعة؟ يجب عليه أولاً: أن يعتبر نظرياً أن هذا النظام لا يحظى بالشرعية الدينيّة. حتى وإن اعترف واقعياً بشرعيته العمليّة والسياسيّة. ثانياً: أن يُحاول تغييره وفق ما هو متاح من وسائل سلميّة مُتاحة (تكوين أحزاب، جمعيات، جماعات ضغط، استخدام الإعلام المفتوح، العمل البرلماني كأقليّة، استغلال هامش الحريّة التي يكفلها الدستور لدعوة الناس بكل الوسائل) محاولاً تغيير قناعات الناس وهِدايتهم للشريعة. أظن أننا في حال قمنا بالتركيب الصحيح لسؤال (الحُكم)، سنصل حتماً إلى الثقة باختيار (الأمة) وقرارها، لا الركون إلى سطوة الحاكم المتفرّد المُستبِدّ تحت مُسوّغات مُضللة، تتمثل في رفض ما تُطلق عليه (حُكم الشعب). * * * * وثمة مدخل آخر للموضوع، وإن كان يحتاج إلى مزيد تفصيل. ذلك أنه في نصوص السنة النبويّة الواردة في الصِحاح والسنن، وفي ما أُثِر عن الخلفاء الراشدين، وفي ما ورد بتاريخ فتوحات العصر الإسلامي الأول، ثمة مئات النصوص والشواهد القوليّة والعمليّة التي تتحدث عن مفهوم (دفع الجزية) المُترتّب على البلاد التي لا تقبل بالإسلام، ولا تُريد الحرب. ووفق هذا المفهوم الذي نجد لتطبيقاته شواهد هائلة في التاريخ الإسلامي، نرى أنه كان بمقدور الجيش الإسلامي السيطرة الكاملة (عسكرياً وسياسياً ودينيّاً) على هذه البلاد الكافرة، ولكن الواجب الشرعي يُحتِّم عليهم ابتداءً تخيير أهل هذه البلاد بين (الإسلام) أو (الجزية)، فإن أبَوا، فالحرب والسيطرة العسكرية. وفي حال قَبِل أهل البلاد الكافرة بدفع الجزية وفي مقابلها تكون الحماية العسكرية فإن الواجب الشرعي هو قبول ذلك منهم، والكف عنهم، كما ورد نصاً في صحيح مسلم: (فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبلْ منهم وكُفّ عنهم). وهذا يعني بقاء تلك البلاد بحُكمها وديانتها ونظامها، على الرغم من توفر (الاستطاعة) للسيطرة بالقوة وحُكم البلاد بالإسلام. مع اشتراط وقد أكّد عليه بعض المؤرخين منح دُعاة الإسلام حرية الدعوة للدين وسط شعوب تلك البلدان الكافرة. ألا يُعطينا هذا التواتر القولي والفعلي إشارة إلى أن الإسلام لا يسعى إلى فرض حُكمه بالقوة على شعوبٍ غير مُسلمة، متى ما توفرت (الحُريّة) للدعوة للإسلام بين شعوب تلك البُلدان؟ لأن هذا يقترب من ذات المفهوم الذي يتحدث عن عدم فرض تطبيق الشريعة بالقوة على شعبٍ اختار غير الإسلام. والاكتفاء ب (محاولة التغيير) عبر الدعوة والتأثير والعمل السِّلمي. ونحن بذلك أمام (نص قولي وعملي)، وأمام عمل الخلفاء الراشدين فيما هو خارج (جزيرة العرب). فلا يصح حينئذٍ الاعتراض على هذه الفكرة بتشقيقات فُقهاء مُتأخرين. أو بما حصل في حروب الردة التي كانت ضد الخارجين على الدولة المُسلمة (مُفارقة الجماعة)، الذين نقضوا أصول الإسلام بأمورٍ أعظمها ادعاء النبوة (مُسيلمة في بني حنيفة/ سجاح في بني تميم/ طليحة في بني أسد/ العنسي في اليمن)، وليس أقلها الامتناع عن دفع الزكاة.